و. أن يبيع الحاضر للبادي تَبَرُّعاً ونُصْحاً، لأنه يَعْلَم أن هذا البادي سوف يُغْبَن، إذ ليس عنده خِبْرَة، أو يعلم بأن أهل البلد الذين سوف يشترون من هذا القادم يخدعونه، يخدعون القادم إليهم فيشترون السلعة بِرُخْص وَبِثَمَنٍ أَقَل، فأراد أن ينصح لهذا القادم ويبيع له تبرعاً فهذا داخل في عموم النهي.
وقال بعض العلماء: بل إذا باع له تبرعاً ونصحاً فلا بأس به، وأن المنهي عنه هو البيع بِأُجْرَة، ويدل له ما ثبت في الصحيحين من طريق: طاووس عن ابن عباس _ رضي الله عنه _ أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال: ((لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد)) قال طاووس لابن عباس: ماقوله: ((ولايبع حاضر لباد)) قال لا يكون له سمساراً.
والسمسار هو الذي يبيع لغيره بأجره _ وهو ما يسمى بالدَّلاَّلْ _ وهو ضِدّ المُتَبَرِّعْ لأن المُتَبَرِّعْ يبيع لمصلحة غيره، أما السمسار فهو يبيع لمصلحة نفسه يريد أجرة، فبينهما فرق، وهذا اختيار البخاري _ رحمه الله _ فقد بوب في "صحيحه" فقال: ’’ باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر وهل يعينه أو ينصحه وقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له، ورخص فيه عطاء‘‘ انتهى كلامه _ رحمه الله _.
قال ابن المُنَيِّر: ’’ حَمَلَ المُصَنِّف _ يعني البخاري _ عن بيع الحاضر للباد على معنى خاص، وهو البيع بالأجر أخذاً من تفسير ابن عباس، لأن ابن عباس _ رضي الله عنه _ بماذا فسر بيع الحاضر للباد؟. قال: أن يكون له سمساراً يعني الذي يأخذ أجرة، أما إذا لم يكن سمساراً بل باع له تبرعاً ونصحاً فإنه لا بأس به، وَقَوَّى ذلك _ أعني البخاري_ بعموم أحاديث ((الدين النصيحة)) لأن الذي يبيع بأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالباً وإنما غرضه تحصيل الأجرة، فاقتضى ذلك إِجَازَة بيع الحاضر للباد بغير أُجرة من باب النصيحة.
ولكن الأخذ بعموم الحديث أولى، يعني سواء كان له سمساراً أو لم يكن، حتى لو باع له، قال أنا أعرف أنك تُغْبَن وأنك إنسان لا تعرف البيع والشراء هات السلعة أنا أبيعها لك نصحاً لا أريد منك شيئاً، لا أريد أجرة منك أريد أجرة من الله، نقول أيضاً لا تبع له، عموم الحديث يَدُلُّ على ذلك لأن النبي _ صلى الله عليه وسلم_ قال: ((لا يبع حاضر لباد)).
ز. أن يكون البادي قد جلب سلعته لحفظها أو خزنها في مخازن له في تلك البلدة، أو أَكْلِهَا هو وأضيافه في تلك البلدة، فتلقاه الحاضر وحضه على بيعها من غير أن يباشر البيع له، هذه فيها خلاف، رَخَّصَ فيها طلحة بن عبيدالله والأوزاعي وابن المُنْذِر، وكرهها مالك والليث، قال ابن قدامة: ’’وقوله الصحابي حجة ما لم يثبت خلافه‘‘ ولكن يقال: الأحوط ألا يفعل، ألا يَعْرِضَ عليه بيعها، ولو لم يباشر البيع هو بنفسه له.
من هذه الصور استنبط العلماء _ رحمهم الله _ شروط تحريم بيع الحاضر لباد، وهي:
1. أن يكون جاهلاً بالسعر.
2. وأن يكون بالناس حاجة إليها.
3. وأن يقصده الحاضر.
وعلى كل هذه الشروط الواقع أنها تحتاج تأمل، ولهذا أجبنا عنها في ذكر الصور، وأنه لا يدل عليها دليل.
والصواب الأخذ بعموم الحديث.
المبحث الثاني: اختلف العلماء _ رحمهم الله _ في شراء الحاضر للباد هل يدخل في النهي أم لا؟
القول الأول: تحريم شراء الحاضر للباد وهو مروي عن أنس وابن سيرين وإبراهيم النَّخَعِي _ رحمهم الله _ وهو رواية عن الإمام مالك اختارها ابن حبيب من أصحابه.
قال أنس: كان يقال لا يبع حاضر لباد وهي كلمة جامعة، يقال: لا تبيعن له شيئاً ولا تبتاعن له شيئاً.
وقال إبراهيم النَّخَعِي _ رحمه الله _ إن العرب تقول بع لي ثوباً وهي تعني الشراء.
قال ابن حبيب المالكي الشراء للباد مثل البيع لقوله _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) فإن من معناه الشراء، وهذا اختيار البخاري _ رحمه الله _ فقد بوب البخاري في "صحيحه" فقال:’’ باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة ‘‘.
¥