وسبب الخلاف بين المذهبين: أن تكبير النبي صلى الله عليه وسلم آخر قراءة جبريل عليه السلام، وأول قراءته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ظهر الخلاف في محل التكبير بداية ونهاية، فمن قائل: إنه من أول سورة (الانشراح) ميلاً إلى أنه لأول السورة، فيكون انتهاؤه عند أول سورة الناس، ولم يكبر في آخر سورة (الناس) أو من آخر (الضحى) ميلاً إلى أنه لآخر السورة، فيكون انتهاؤه عند آخر سورة (الناس) (15).
وعلى كل حال فكلٌّ صحيح مأخوذ به (16).
وقد قال الإمام الشاطبي:
وما أَفْضَلُ الأعمالِ إلا افتِتَاحُهُ مع الخَتْم حِلاًّ وارتحالاً مُوَصَّلا (17)
هذا، ولكون رواية حفص عن عاصم هي المنتشرة في بلاد المشارقة، فإني سأذكر طرق التكبير بعامة عن طريق حفص.
فلحفص من طريق طيبة النشر وجهان في التكبير: إثباته عامًّا، وخاصًّا، أو تركه.
وأما وجه ترك التكبير: فهو من طريق الشاطبية.
والوجهان – أي إثبات التكبير وعدمه- صحيحان، مأخوذ بهما لحفص، إلا أن ترك التكبير هو المقدم في الأداء (18).
تاسعاً: الأحكام الفقهية المتعلقة بالتكبير خارج الصلاة:
مسألة التكبير عند ختم المصحف الشريف لا تقل أهمية عن الفروع الفقهية الأخرى في أبواب قراءة القرآن في الصلاة، وأبواب الذكر في داخل الصلاة وخارجها، والمسائل الفقهية المتعلقة بقراءة القرآن الكريم وما يشترط لها من الطهارة، وما يتعلق بسجود التلاوة ونحوها.
وإن أكثر القراء لم يتعرضوا لأحكام التكبير الفقهية داخل الصلاة وخارجها؛ لعدم تعلقهم به، لأن ذلك راجع للفقهاء، وتفريعهم المسائل المتعلقة به، ولذلك فإن العديد من التفريع الفقهي هو من عمل الباحث، حيث لم يجد من سبقه إلى تفريع مثل هذه الأحكام، ويسأل الله عزوجل السداد والصواب فيما يذهب إليه من أحكام.
غير أن طائفة من القراء تعرضوا لبعض مسائله في كتبهم: كالحافظ أبي عمرو الداني، والإمام أبي العلاء الهمداني، والأستاذ أبي القاسم بن الفحام، والعلامة أبي الحسن السخاوي، والمجتهد أبي القاسم الدمشقي المعروف بأبي شامة، وقد رووا في ذلك أخباراً عن سلف القراء والفقهاء (19).
وعليه: فسأذكر – فيما يلي – من الأحكام المتعلقة بالتكبير عند ختم المصحف الشريف خارج الصلاة الحكم التالي وهو:
هل يسن الجهر بالتكبير أم الإسرار به؟
حكم هذه المسألة متفرع على مسألة أخرى عند الفقهاء، وهي هل الجهر بالقراءة أفضل أم الإسرار بها (20)؟ وما الحالات التي يسن فيها الجهر بالاستعاذة والبسملة والقراءة؟ وما الحالات التي يسن بها الإسرار بما تقدم؟
أما بالنسبة للأمر الأول فقد جاءت أحاديث متعددة في الصحيح وغيره دالة على استحباب رفع الصوت بالقراءة، وجاءت آثار أخرى دالة على استحباب الإخفاء وخفض الصوت. وعليه: فإنه يسن الجهر (21) بالتكبير عند ختم المصحف الشريف كما أنه يسن الجهر بالقراءة؛ لأن التكبير تبع للقراءة، لكونه متعلقاً بها.
وحيثما خلا هذا الجهر من الرياء، والتشويش على الآخرين، وكان فيه إظهار لنعمة الله عز وجل بإتمام المنة بهذا القرآن الكريم، وكان فيه تعليم لأهل البيت لهذه السنة المأثورة؛ فإنه يدخل في دائرة الاستحباب والسنية.
وبالنسبة للأمر الثاني وهو حالات الجهر والإسرار بالاستعاذة والبسملة فللاستعاذة عند إرادة قراءة القرآن الكريم، حالتان: هما الجهر، والإخفاء.
فأما الحالة الأولى: فهي الجهر بها، فيستحب عند بدء القراءة في موضعين:
1 - إذا كانت القراءة جهراً، وكان هناك من يستمع لقراءته.
2 - إذا كانت القراءة وسط جماعة يقرؤون القرآن، وكان هو المبتدئ بالقراءة، وكذلك لمن يبتدئ القرآن بعرض أو درس، أو تلقين (22).
هذا، فإذا كان جماعة يقرؤون القرآن قراءة جماعية، ويختمون ختمة واحدة، فإن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة، وأفعال السلف والخلف المتظافرة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنه: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (23).
¥