تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا شك أن هذه الاستعمالات التي أفتى فيها الصحابة والتابعون هي من جنس استعمال هذه العطور في هذا الزمن فتلحق بها.

الدليل التاسع

أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر باتقاء الشبهات، ففي الصحيحين من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول:"إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ".

وأقل ما في هذه العطورات وجود شبهة الحرام فيها لوجود المسكر، وقد ذكر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.

الدليل العاشر

أن الصواب من قول أهل العلم هو القول بنجاسة الخمر للأدلة التالية:

1.قوله تعالى واصفاً الخمر (رجس من عمل الشيطان) والرجس في لغة العرب هو النجاسة وكل مستقذر تعافه النفس، وقيل إن أصله الركس وهو العذرة والنتن، وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتي بحجرين وروثة للاستجمار، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال (إنها ركس أو رجس)، وقد وصف الله تعالى الخمر بهذا فدل ذلك على نجاسته.

2.قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا.

3.ويدل عليه الأمر باجتنابها في قوله تعالى (فاجتنبوه)، والأمر بإراقتها، وكسر دنانها، وشق ظروفها، وغسل أوانيها، واستخباث الشرع لها مما لم يرد مثله ولا قريباً منه في البول،قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كافٍ في القول بنجاستها"اهـ.

وهذا المذهب هو مذهب عامة أهل العلم، وجمهور أهل الحديث، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهو مذهب المحققين من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية،وابن القيم وغيرهم.

وإنما خالف في ذلك قلة من العلماء جعلوا نجاسة الخمر نجاسة معنوية لا حسية، وكان حاصل ردهم على أدلة الجمهور يرجع إلى شيئين:الأول: أن الله سبحانه قرنها في الآية المذكورة بالميسر والأنصاب والأزلام، وهذه ليست نجسة العين وإن كانت محرمة الاستعمال.

الثاني: أن الصحابة لما بلغهم تحريمها أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك ولنهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك.

والجواب عن الأول: من وجهين:

الوجه الأول:أن قوله تعالى (رجس) يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخرجه نص أو إجماع خرج بذلك، وما لم يخرجه نص ولا إجماع لزم الحكم بنجاسته، والخمر هنا لم يأت نص يخرجها من النجاسة العينية، بل النصوص تعضد القول بنجاستها –كما سبق-فلزم القول بنجاستها.

الوجه الثاني: إن باقي الأدلة التي تأمر باجتناب الخمر ولعن عينها والأمر بإراقتها وتحريم إمساكها وغيرها كلها تدل على نجاستها ولو لم تأت هذه الآية فكيف وقد نصت الآية مع ذلك على أنها رجس؟؟ ومن عمل الشيطان؟؟.

والجواب عن الثاني من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا لا دليل لهم فيه، فإنها لم تعم جميع الطرق، ولم تكن الخمر بالكثرة بحيث تصير نهراً لا يمكن التحرز منه، بل جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها.

الوجه الثاني: أن الصحابة فعلوا ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف، ونقلها إلى الخارج فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور.

الوجه الثالث: أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ، فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار.

الوجه الرابع: أنه يحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه -بسندٍ جوّده الحافظ ابن حجر-من حديث جابر في قصة صب الخمر، قال: (فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي).

الوجه الخامس: ولم أر أحدا من أهل العلم ذكر هذا الوجه وهو في نظري أقوى الوجوه:

وهو أننا لو سلمنا بأن الخمر جرت في جميع طرق المدينة، فإن هذا لا يدل على طهارتها، لأن الخمر سريعة الاستحالة جداً، فتستحيل مع الشمس والريح، والاستحالة مطهرة، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - -وفي السنن: وتبول-ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) ولو قال قائل:إن بول الكلاب طاهر لهذا الحديث!! لكان استدلاله أوجه ممن استدل على طهارة الخمر بإراقتها في طرق المدينة، لأنه في الحديث نص على أنها كانت تبول في المسجد والمسجد يجب تطهيره، ونص على أنهم لم يكونوا يرشون على بولها شيئاً، ومع ذلك لم يذهب أحد إلى طهارة بول الكلاب لهذا الحديث، بل أجابوا عنه بأجوبة أصحها أن الشمس والريح تحيل النجاسة، وما قيل في الجواب عن هذا الحديث، فإنه يكون جواباً من باب أولى على إراقة الخمر في طرق المدينة.

فإذا تقرر هذا: فمما يدل على تحريم استعمال العطورات التي فيها مسكر نجاستها، والمسلم يحرم عليه مباشرة النجاسة إلا لحاجة –كالاستنجاء-، وأما في الصلاة فيحرم عليه التضمخ بها مطلقاً إلا لضرورة، والحاجة والضرورة هنا منتفيتان لأن الأمر كله عائد إلى التحسينيات، ولوجود البديل الذي يقوم مقام هذه العطورات مما أباح الله سبحانه وتعالى، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم،،،، [/ b]

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير