قال الجصاص: (قوله تعالى "فاغسلوا وجوهكم" يقتضي إيجاب الغسل، والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة، وإذا كانت هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء، أو ما يقوم مقامه؛ فقوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم" إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع؛ إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها؛ فإذن ليس عليه دلك ذلك الموضع بيده، وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع). ()
الدليل الثاني: استدلوا أيضا بالأحاديث الكثيرة في كيفية وضوئه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الدلك في شيء منها؛ فدل ذلك على عدم وجوبه، وقد تقدم كثير منها.
الدليل الثالث: ما رواه البخاري عن عمران بن حصين من حديث طويل وفيه: ( .. فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال أصابتني جنابة ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك ... ثم قال له بعد أن حضر الماء: اذهب فأفرغه عليك) الحديث. ()
قالوا: فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإفراغ الماء على جسده؛ ولو كان الدلك شرطا لأخبره به؛ فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو معروف.
الدليل الرابع: حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين). ()
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفيك" ساقه مساق الحصر فدل على أن الدلك ليس شرطا في الطهارة الكبرى، ولا في الطهارة الصغرى من باب أولى.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
الدليل الأول: أنه شرط في حصول مسمى الغسل المأمور به في الآية، وقد فرق أهل اللغة بين الغسل والانغماس. ()
قال عطاء لما سئل عن الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا؛ بل يغتسل غسلا؛ لأن الله تعالى قال: "حتى تغتسلوا" ولا يقال اغتسل إلا لمن دلك نفسه. ()
واعترض عليه الجصاص فقال: (والدليل على بطلان قول موجبي ذلك الموضع إن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك، والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة؛ فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها سمي بذلك غاسلا، وإن لم يدلكه بيده؛ فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه وقال الله تعالى: "فاغسلوا" فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها؛ فمن شرط فيه دلك الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه، وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ، وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم؛ فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك). ()
الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها ( .. وادلكي جسدك بيدك). ()
قالوا: والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف؛ ولا صارف هنا؛ فدل ذلك على وجوب الدلك. ()
واعترض الإمام ابن حزم – رحمه الله تعالى – على هذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أنه من رواية عكرمة بن عمار، وقال: إنه ساقط.
قلت: وهذا الاعتراض وهم منه رحمه الله تعالى؛ لأن عكرمة هذا ثقة بلا شك؛ إلا أن روايته عن يحيى بن أبي كثير مضطربة ضعفها بعض المحدثين. ()
الوجه الثاني: أنه مرسل؛ لأنه من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة. ()
قلت: وهذا الاعتراض مردود أيضا؛ لأنه أدرك عائشة، وروى عنها، وعن ابن عباس، وابن عمر، وغيرهم. ()
الدليل الثالث: حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه. ()
الدليل الرابع: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فلما كان في بعض الليل قام النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا - يخففه عمرو ويقلله - وقام يصلي فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره - وربما قال سفيان عن شماله - فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة؛ فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضأ. ()
قال ابن حجر: (وقال ابن المنير: يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة، قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك؛ لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره، لكنه لم يختصره). ()
ورد ابن حجر استدلاله ودعواه فقال: (وهي دعوى مردودة؛ فإنه ليس في الخبر ما يقتضي ذلك؛ بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك). ()
وتلخيص المسألة هو كما قال الإمام الصنعاني – رحمه الله تعالى – حين قال: (والتحقيق أن المسألة لغوية؛ فإن الوارد في القرآن الغسل في أعضاء الوضوء؛ فيتوقف إثبات الدلك فيه على أنه من مسماه). ()
قلت: ولم أجد في كتب اللغة ما يدل على دخول الدلك في مسمى الغسل؛ فالواجب ما يصدق عليه اسم الغسل لغة، وهو: إفاضة الماء على الأعضاء من غير اشتراط لدلكها. والله تعالى أعلم.
الترجيح:
الراجح عندي في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الدلك، ولم يأت المالكيون بأدلة كافية لإيجابه؛ وأقوى ما عندهم إنما هي أفعال مجردة، وقد قدمنا أن الفعل المجرد لا يستقيم دليلا على الوجوب، وهو الصحيح من أقوال الأصوليين إن شاء الله تعالى.
ومع ذلك فقول بعض المالكيين أنه واجب لعلة إيصال الماء إلى البشرة له وجه قوي؛ لأن الجميع متفقون على وجوب إيصال الماء إلى البشرة، ومن المعلوم أنه يصعب القيام بهذا الواجب دون دلك. والله تعالى أعلم.
¥