ترَكَ الكفَّار المحتلون هذه الجامعات على حالها، ولم يتعرَّضوا لها بغارة في رابعة النهار، ولكنَّهم الْتفّوا، فبنوا جامعات عصريَّة فيها من العِلم والأدب الأسماءُ دون الحقائق، كما أنَّ في الدنيا خمْرًا وعَسَلاً، وفي الجنة خمْرًا وعسلاً، وليس الخمْر كالخمر، ولا العسلُ كالعسل.
وبدأتْ هذه الجامعات تُفَرِّخُ العلماء والأدباء، وفتحتْ أمامَهم أبوابَ الحُكم على مِصْراعيها، فتسلموا أزِمَّة الثقافة، وخُطُمَ الحضارة، وأنشأ هؤلاء أجيالاً من الناس، تسيرُ على هَدْيهم، وتتبَّع خُطاهم؛ حُذو القُذَّة بالقُذَّة، إلى أنْ صارَ زمانٌ انقطعَ فيه إنتاج العلماء والمفكِّرين بشكلٍ رسْمي ومنظَّم في أغلب بلاد الإسلام، إلاَّ أنْ يكونَ عن طريق الجامعات العصريَّة، وصار إسهامُ الجامعات العتيقة في الفِكْر والحضارة، على الأطْراف والحواشي، بعد أنْ كانتْ تحلُّ من جسد الأُمَّة محلَّ القلب النابض، والضمير الواعي، فأُغْلِق بعضُها بعد أن اضمحلَّ دورُه في الحياة، وبَقِي بعضُها الآخر صورة هامِدَة، وبدنًا لا رُوحَ فيه.
ولولا أنَّ الله - تعالى - تداركَ هذه الأُمة بصحوة إسلاميَّة جارفة أحْيَتِ المساجد والبيوت بالعِلْم والفِكْر، لانْقَرَضَ العلماء الربَّانيُّون من الأُمَّة، وما بَقِي فيها غيرُ نسْلِ الجامعة.
لقد صارَ العَوَام في كثيرٍ من بلادنا لا يقتنعون بكلام الشخص ما لم يكنْ حاملاً لشهادةٍ أكاديميَّة من إحدى هذه الجامعات العصريَّة.
وصارتْ هذه الشهادة تفتحُ لصاحبها أبوابًا دعويَّة هامَّة؛ في المحاضرات العامَّة، والدورات الثقافيَّة، والجرائد والمجلات، وإصدار الفتاوى، وغير ذلك.
وإنني - والله - لأعْرفُ من العلماء مَن شاب رأْسُه في تحقيق فنون العلم، لو أرسَلَ مقالاً أو فتوى لمجلة أو جريدة سائرة لم تَأْبه له، وأعرف - بالمقابل - من حَمَلة الشهادة الجامعيَّة مَن لا يفرِّق في العلم بين الكوع والبوع، ولكنَّه لو تكلَّم في مسألة ما، لقالَ أهلُ الجهل، وسَدَنة الإعلام الذي يُؤَطِّر العَوَام: "هذا رجلٌ من أهْل الاختصاص؛ فاسمعوا لقوله، ولا تلغوا فيه".
الجامعة إذًا أداة طَيِّعَة في أيدي المتحكِّمين في ثقافة الأُمة، وما علينا إلا أنْ نقفَ من شهاداتها أحدَ موقفين لا ثالثَ لهما:
إمَّا أن نرفضَها رفْضًا قاطعًا؛ لأنها تنشرُ الفكرَ المنحَلَّ، وتبثُّ الجهلَ في صورة العِلم، وتبني جحافلَ من أنصاف العلماء [1] ( http://www.alukah.net/Culture/0/25736/1/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%B 5%D8%A7%D9%85/#_ftn1) تتصدَّرُ قبل أن تتأهَّلَ، فتُفْسد أكثر مما تُصْلح، وهذا صوابٌ في أغلبه، حقٌّ في مُجمله، وقد بُليتُ من ذلك - أيَّام إعداد شهاداتي الأكاديميَّة - ما أيقنتُ معه أنَّ الجامعة [2] ( http://www.alukah.net/Culture/0/25736/1/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%B 5%D8%A7%D9%85/#_ftn2) فسادٌ كبيرٌ، وصلاح يسيرٌ، وغرورٌ خطير!
ولا نملكُ بعد هذا الرَّفْض إلا أنْ نضجَّ بألوان التهكُّم على الشهادة الجامعيَّة، ونُلْحِقَها بشهادة الزور في الحقيقة والمعنى، أو نرفعَ عقيرتنا بالشكوى من اختلال المفاهيم، وتطفيف موازين الحُكم على الرجال [3] ( http://www.alukah.net/Culture/0/25736/1/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%B 5%D8%A7%D9%85/#_ftn3).
وإمَّا أنْ نزاحمَ القوم على كَراسي الجامعة، وقد تحصَّنا من قبل ذلك بدرعٍ سابغة؛ من الاعتقاد السليم، والفِكر الصافي، والعلمِ الشرعي النافع.
فإذا تمكَّنا من تلك الورقة العجيبة التي يسمُّونها شهادة أكاديميَّة، انطلقنا إلى ميادين النضال الفِكري، وقد فُتحتْ أبوابٌ كانتْ من قبل مُغْلقة، وانجلتْ آفاقٌ كانتْ من قبلُ بالغيوم مُلبَّدَة.
إنني لأَجُدني أميلُ كلَّ الميل إلى هذا الموقف الثاني، وأرى أنَّ مصلحة الأُمَّة في ذلك، وإنْ لم يخلُ الأمرُ من بعض المفاسد، ولكنَّها في جَنْب المصالح المرجوَّة قليلة ضئيلة.
¥