قلت: وكل هذه الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول على تسليم الاحتجاج بها؛ فإنها لا تصح دليلا على قولهم؛ لأنه ليس فيها تفريق بين ثقيل وخفيف، أو قليل وكثير؛ وأولى أن يحتج بها من جعل النوم ناقضا للوضوء بصفة مطلقة. والله تعالى أعلم.
الدليل الرابع: أنه مع الاستثقال يغلب خروج الخارج؛ بخلاف النوم الخفيف.
واعترض الإمام النووي على هذا فقال: (وأما المعنى الذي ذكروه؛ فلا نسلمه؛ لأن النوم إما أن يجعل حدثا في عينه كالإغماء، وهم لا يقولون به، وإما دليلا على الخارج، وحينئذ إنما تظهر دلالته إذا لم يكن المحل ممكنا، وأما المتمكن فيبعد خروجه منه ولا يحس به؛ فلا ينتقض بالوهم). ()
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث علي رضي الله عنه: (العينان وكاء السه؛ فمن نام فليتوضأ).
وسبق الكلام عليه بما فيه الكفاية.
الدليل الثاني: حديث صفوان: (لكن من غائط، أو بول، أو نوم).
وسبق الاعتراض عليه بأن دلالة الاقتران ضعيفة.
الدليل الثالث: حديث أنس أنهم كانوا ينامون فتخفق رؤوسهم. ()
وحملوه على أنهم كانوا ينامون جلوسا منتظرين للصلاة.
قلت: وتقدم الاعتراض عليه بأنه فعل صحابي لا تقوم به الحجة، وتقدم أيضا الجواب عن هذا الاعتراض.والله تعالى أعلم.
الدليل الرابع: حديث أنس رضي الله عنه قال أقيمت صلاة العشاء؛ فقال رجل لي حاجة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه حتى نام القوم، أو بعض القوم، ثم صلوا، وفي رواية حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم. ()
وحمله أصحاب هذا القول على ما حملوا عليه الحديث المتقدم.
الدليل الخامس: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل ليلة عن العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا. ()
الدليل السادس: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء، حتى رقد الناس، واستيقظوا، ورقدوا، واستيقظوا). ()
قال النووي: (وظاهرهما أنهم صلوا بذلك الوضوء). ()
قلت: وهذه الأدلة ينطبق عليها ما تقدم من أنها لم يذكر فيها تفريق بين الممكن مقعده، وغير الممكن، فالأولى أن يحتج بها أصحاب القول الخامس. والله تعالى أعلم وأحكم.
الدليل السابع: أن النائم غير الممكن يخرج منه الريح غالبا؛ فأقام الشرع هذا الظاهر مقام اليقين، كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة. ()
قلت: وهو قياس مردود؛ لأنه في مقابلة النصوص الكثيرة الصحيحة الصريحة، فلا يلتفت إليه. والله تعالى أعلم.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا، إنما الوضوء على من نام مضطجعا؛ فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله). ()
قال السرخسي: (وهو المعنى، فإن الاستمساك باق مع النوم في هذه الأحوال؛ بدليل أنه لم يسقط، وبقاء الاستمساك يؤمنه من خروج شيء منه؛ فهو كالقاعد بخلاف المضطجع). ()
قلت: هذا الحديث فيه ألفاظ منكرة، وباقي ألفاظه معلول.
قال أبو داود: (قوله الوضوء على من نام مضطجعا هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس، ولم يذكروا شيئا من هذا، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم محفوظا، وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" وقال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة، وحديث ابن عباس: حدثني رجال مرضيون منهم عمر، وأرضاهم عندي عمر، قال أبو داود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاما له، وقال ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة، ولم يعبأ بالحديث). ()
قلت: ويزيد الدالاني () لا يحتج بحديثه، فكيف ومعه عنعنة قتادة رحمه الله تعالى؛ فقد كان مدلسا معروفا بذلك، وقد عنعن عن أبي العالية، وصرح شعبة بأن قتادة لم يسمع من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ليس هذا الحديث منها.
¥