فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه
يراه، كما فسر النبي (الإحسان بذلك في سؤال جبريل (له، وقد سبق حديثه في ((كتاب: الإيمان)).
وخرج النسائي من حديث ابن عمر، قال: أخذ النبي (ببعض جسدي، فقال: ((أعبد الله كأنك تراه)).
وقد كان ابن عمر قبل هذه الوصية وامتثلها، فكان يستحضر في جميع
أعماله وعباداته قرب الله منه واطلاعه عليه.
وكان عروة بن الزبير قد لقيه مرة في الطواف بالبيت فخطب إليه ابنته سودة، فسكت ابن عمر ولم يرد عليه شيئا، ثم لقيه بعد ذلك بعدما تقدم المدينة، فاعتذر له عن سكوته عنه، بأنا كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.
وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه، وإجابته له، فقال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ([البقرة: 186].
وقد روي في سبب نزولها: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله (: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ([البقرة:186].
خرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وروي عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن، قال: سأل أصحاب رسول الله (: أين ربنا؟ فأنزل الله (: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ([البقرة: 186].
وروى عبد بن حميد بإسناده، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: نزلت هذه الآية: (ادعوني أستجب لكم ([غافر: 60]، قالوا: كيف لنا به أن نلقاه حتى
ندعوه؟ فأنزل الله عز وجل على نبيه (: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ([البقرة: 186]، فقالوا: صدق ربنا، هو بكل مكان.
وقد خرج البخاري في ((الدعوات)) حديث أبي موسى، أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال لهم النبي (: ((إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا)).
وفي رواية: ((أنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم)).
ولم يكن أصحاب النبي (يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، وإطلاعه على عباده وإحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيما وإجلالا ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه.
ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي (أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه.
وتعلقوا - أيضا - بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم ([الحديد: 4] وقوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ([المجادلة: 7]، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن.
وممن قال: أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان، وروي عنه أنه رواه عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقاله الضحاك، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان.
وروي نحوه عن مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري واحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة السلف.
وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه بكل مكان.
وروي هذا المعنى عن علي وابن مسعود - أيضا.
وقال الحسن في قوله تعالى: (إن ربك أحاط بالناس ([الإسراء: 60]، قال: علمه بالناس.
وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله:
(وهو معكم أين ما كنتم ([الحديد: 4] أن المراد علمه.
وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: أنه تعالى بذاته في كل مكان.
¥