(برنامج "الإسلاميات التطبيقية" تم طرحه أولاً في عام 1973، ثم استفاض فيه أركون في مقالة بعنوان "لأجل إسلاميات تطبيقية" عام 1984. بينما كان هذا اللقب مأخوذاً من روجر باستيد "الانثروبولوجيا التطبيقية" عام 1973، فإن البرنامج التصوري يعتمد على الاستعارة من نطاق واسع من منجزات العلوم الإنسانية الغربية في القرن العشرين).
[ C. Kersten, Islam, cultural hybridity and cosmopolitanism, JIGS]
وفي أول دراسة طرحها أركون في باريس عن مفهوم الإسلاميات التطبيقية؛ عقد فقرة بعنوان (مفهوم الإسلاميات التطبيقية) ابتدأها باقتباس مكون من أربعة أسطر من كتاب روجر باستيد (الانثروبولوجيا التطبيقية) مستنداً إليه في توضيح الفرق بين العلم والتطبيق، ثم قال أركون:
(لن نستعرض هنا كل التحليلات التي قدمها روجيه باستيد، لكننا ندعو القارئ بإلحاح إلى العودة إليها) [تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، 54].
حسناً .. دعنا الآن من استعارة أركون للمصطلح من باستيد بشكل حرفي ومباشر، ولننظر في المحتوى والمضمون للفكرة، وهي نقد الاستشراق التقليدي بكونه متخلف عن ثورة العلوم الإنسانية، فهذه الفكرة –أيضاً- مطروقة قبل أركون، ففي الخمسينات والستينات كانت العلوم الإنسانية مزاج العصر، وكُتِب عن ذلك في شتى الاتجاهات.
وفي تقديري أن النقد الأهم هو ورقة عالم الاجتماع المصري (أنور عبدالملك) التي نشرها مطلع الستينات ونقد فيها الاستشراق التقليدي في جملة قضايا ومنها تخلف الاستشراق التقليدي عن تطور مناهج البحث العلمي في العلوم الإنسانية، وكان لهذه الورقة أصداءً حادة في الطرفين المؤيد والمعارض، وسماها بعض المراقبين الطلقة الأولى في نقد الاستشراق، والمؤرخون لنقد الاستشراق، وما يسمى (مدرسة النقد مابعد الكولونيالي) يشيرون دوماً إلى ورقة أنور عبدالملك باعتبارها افتتاحية هذا الاتجاه.
ففي شتاء عام 1963 نشر أنور عبدالملك أطروحته (الاستشراق في أزمة) في مجلة (ديوجين)، وهذه الورقة التاريخية تضمنت أربع قضايا أساسية: أثر المحضن الاستعماري لأبحاث الاستشراق، وخلل المستشرقين العلمي في طريقة جمع المعلومات والبيانات عن الشرق، وأن التحولات الدولية الجذرية (حركات التحرر، وظهور القوميات والدول الاشتراكية، الخ) تستوجب إعادة فهم الشرق من جديد، وقصور أدوات ومناهج الاستشراق عن تطور العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ومما جاء في ورقة أنور عبد الملك قوله:
(أصبح المختصون –بل حتى عموم الناس- واعين فجأةً بالفجوة الزمنية، ليس بين علم الاستشراق والمادة المدروسة فقط، ولكن –أيضا-ً بين مفاهيم ومناهج وأدوات العمل في العلوم الانسانية والاجتماعية وتلك المستعملة في الاستشراق، الاستشراق التقليدي وجد نفسه غير متواكب مع تطور البحث العلمي، من أجل ذلك يجب التفكير في مجمل الإشكالية بصورة جديدة)
[ A. Abdel-Malek, Orientalism in crisis, Diogenes, 1963, p.112]
وكان هذا هو روح تلك المرحلة أصلاً، حتى أنه في نفس الفترة التاريخية فإن مؤتمر المستشرقين غير اسمه من الاستشراق إلى العلوم الإنسانية، كما ينقل الباحث هوبينتي في بحثه عن ماضي وحاضر الاستشراق فيقول:
(في باريس في 1973 غير المؤتمر عنوانه من "المؤتمر الدولي للمستشرقين" إلى "المؤتمر الدولي للعلوم الإنسانية في آسيا وشمال أفريقيا")
[ T. Hubinette, Orientalism past and present]
لكن هناك طبعاً فارق جذري بين دعوة أنور عبد الملك المبكرة، ودعوة أركون اللاحقة، فأنور عبد الملك يرى أن ثورة العلوم الإنسانية والاجتماعية تفضح تجني الاستشراق على المسلمين، بينما أركون يرى أن ثورة العلوم الإنسانية تفتح المزيد للمستشرقين لإدانة المسلمين وتاريخهم وقرآنهم.
الوعي بتخلف مناهج المستشرقين عن ثورة الانثروبولوجيا أول من طرحه -فيما أعلم- هو الرائد أنور عبدالملك، ولكن شتان بين من يرى أن التطور العلمي يكشف تجني المستشرقين، وبين من يرى أن التطور العلمي يتيح المزيد من التجني للمستشرقين.
فلا أدري سر هذا التمدح الذي أصم أركون آذاننا به، طالما أن المصطلح والمضمون، كلاهما؛ مسبوقان، وبكثافة؟!
-إشكالية تطبيق العلوم الإنسانية على الوحي:
¥