أخرجه البخاري في " صحيحه " في أكثر من موضع منها (ك: الإيمان / بـ ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة ... / ح 55)، ومسلم في " صحيحه " (ك: الزكاة / بـ فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج / ح 1002) من حديث أبي مسعود.
الشاهد:
أن هذا بيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجر من يقصد ثواب الله عز وجل حتى في الإنفاق على أهله فإن الإنفاق عليهم من الواجبات، ومتى ما قصد به العبد الطاعة لله تعالى، والابتغاء لثوابه كان ذلك صدقة له عند الله تعالى أما إن قصد به إسقاط المؤاخذة فقط فهذا تسقط عنه المؤاخذة، ولكن لا أجر له لأنه لم يقصده. والله أعلم.
وقد نقا ابن حجر رحمه الله تعالى عند شرحه لهذا الحديث قول الإمام القرطبي إذ قال:
قَوْله " يَحْتَسِبهَا " قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَفَادَ مَنْطُوقه أَنَّ الْأَجْر فِي الْإِنْفَاق إِنَّمَا يَحْصُل بِقَصْدِ الْقُرْبَة سَوَاء كَانَتْ وَاجِبَة أَوْ مُبَاحَة , وَأَفَادَ مَفْهُومه أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْصِد الْقُرْبَة لَمْ يُؤْجَر , لَكِنْ تَبْرَأ ذِمَّته مِنْ النَّفَقَة الْوَاجِبَة لِأَنَّهَا مَعْقُولَة الْمَعْنَى , وَأَطْلَقَ الصَّدَقَة عَلَى النَّفَقَة مَجَازًا وَالْمُرَاد بِهَا الْأَجْر , وَالْقَرِينَة الصَّارِفَة عَنْ الْحَقِيقَة الْإِجْمَاع عَلَى جَوَاز النَّفَقَة عَلَى الزَّوْجَة الْهَاشِمِيَّة الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهَا الصَّدَقَة " اهـ.
وهناك أدلة أخرى كثيرة جداً، ولكن أكتفي بذلك لعدم الإطالة.
وهنا لابد من التنبيه على أن من الضروري استحضار نية الاحتساب وطلب الأجر والثواب من الله تعالى على كل عملٍ صالح حتى لو كان واجباً فإن الإنسان قد يعتاد فعل الواجب فيصير كالعادة فيفعله دون أن يستحضر أن هذا الفعل قربة إلى الله تعالى يُرجى بها ثوابهُ وجنته، وإنما يكون قصده إسقاط الواجب وإبراء الذمة منه ففي هذه الحالة تسقط عنه المطالبة بالواجب فعله، ولكن قد لا يحصل له الأجر والثواب المرجو من مثل هذه الطاعة.
فمثلاً:
سداد الديون واجب، وكذلك النفقة على من يعولهم من زوجة وأولاد، وما يملكه من دواب، ورد المغصوب كل ذلك واجب، وتبرأ الذمة منه بمجرد فعله، وتسقط المطالبة به، ولكن الثواب إنما يحصل لفاعل هذه الأمور رجاء ثواب الله تعالى فيؤدي الديون والحقوق إلى أصحابها لأن الله تبارك وتعالى أمره بذلك فهو يرجو بفعله رضى الله تعالى وثوابه والدار الآخرة.
وأرى أنه من المناسب أن من المناسب في هذا المقام أن أنقل كلام الإمام القافي في " الفروق " (2/ 50 – 51) في الفرق الخامس والستين بين قاعدة ما يُثاب عليه من الواجبات، وبين ما لا يُثاب عليه منها وإن وقع ذلك واجباً.
قال رحمه الله تعالى:
" اعلم أن المأمورات قسمان:
ما صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته، كأداء الديون ورد الغصوب، ودفع الودائع، ونفقات الزوجات والأقارب والدواب ونحو ذلك.
فإن صورة الفعل تُحصِّل مقصوده، وإن لم يحصل به التقرب فإذا فعل ذلك من غير قصد ولا نية وقع ذلك مجزئاً، ولا يلزم فيه الإعادة، ولا ثواب فيه حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى.
فإن فعله غير قاصد امتثال أمر الله تعالى ولا عالم به لم يحصل له ثواب، وإن سد الفعل مسده ووقع واجباً ... .
والقسم الآخر:
لا يقع واجباً إلا مع النية والقصد كالصلاة، والصيام، والحج، والطهارات، وجميع أنواع العبادات التي يُشترط فيها النيات فهذا القسم إذا وقع بغير نية لا يُعتد به، ولا يقع واجباً ولا يُثاب عليه.
وإذا وقع منوياً على الوجه المشروع كان قابلاً للثواب وهو سبب شرعي له من حيثُ الجملة؛ غير أن ها هنا قاعدة وهي:
" أن القبول غير الإجزاء، وغير الفعل الصحيح "
فالمجزيء من الأفعال هو: ما اجتمعت شرئطه وأركانه، وانتفت موانعه فهذا يُبرىء الذمة بغير خلاف، ويكون فاعله مُطيعاً بريء الذمة فهذا أمر لازم مُجمع عليه.
وأما الثواب عليه فالمحققون على عدم لزومه، وأن الله تعالى قد يُبريء الذمة بالفعل، ولا يُثيب عليه في بعض الصور، وهذا هو معنى القبول، ويدل على ذلك أمور:
أحدها: قوله تعالى حكاية عن بني آدم (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: من الآية27) لما قربا قُرباناً فتُقبِل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر مع أنه على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له: إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول فحيثُ عُدل عنه دل على أن الفعل كان صحيحاً مُجزئاً، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزيء قد لا يُقبل، وإن برأت الذمة به وصح في نفسه ... " اهـ
هذا وإن أردت أخي زيادة تفصيل فراجع:
القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها جمع ودراسة من مجموع فتاوى شيخ الإسلام تأليف: إسماعيل بن حسن بن محمد (رسالة دكتوراة بالجامعة الإسلامية بالمدينة) صـ 141 - 161.
والقواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين تأليف: أبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة الجزائري صـ 219 – 239.
وكذا الكتاب الماتع " مقاصد المكلفين فيما يُتعبد به لرب العلمين " للدكتور / عمر سليمان الأشقر؛ فهذا الكتاب حري بالمدارسة.
وموسوعة القواعد الفقهية تأليف: محمد صدقي بن أحمد البورنو (1/ 120 – 159).
فالأمر كما قال فضيلة الشيخ عمر حفظه الله تعالى في كتابه المتقدم (1/ 4) نقلاً عن عبد الله بن أبي جمرة:
" وددتُ أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شُغلٌ إلا أن يُعلِّم الناس مقاصدهم في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أُتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك " اهـ.
وجزاكم الله خيراً
¥