"… فأخبر أن الجميع ملكه، وقد خلقه، وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم محيط بالمخلوقات، عال عليها بكل اعتبار، فمن استقبل جهة من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب أو بين ذلك فإنه متوجه إلى ربه حقيقة، والله تعالى قبل وجهه إلى أي جهة صلى، ومع ذلك فوق سمواته عال على عرشه، ولا يتوهم تنافي الأمرين بل اجتماعهما هو الواقع ولهذا عامة أهل الإثبات جعل هذه الآية من آيات الصفات، وذكرها مع نصوص الوجه مع قولهم إن الله فوق سمواته على عرشه. اهـ
خامسا: إن تعين التأويل فبالحقيقة لا بالمجاز ..
والتأويل عندنا بمعنى التفسير للحديث بجمع ألفاظه وأخذه على حقيقته وبيان معانيها مجموعة، وليس التأويل على مصطلح المتأخرين بصرف اللفظ عن ظاهره ونفي حقيقته والقول بالمجاز ..
وقد رد الامام ابن باز على كلام الحافظ ابن حجر في تعليقه على الفتح بقوله:
ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته لأن النصوص من الآيات والأحاديث في إثبات استواء الرب سبحانه على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لاتحتمل أدنى تأويل وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها والإيمان بما دلت على الوجه الذي يليق به سبحانه من غير أن يشابه خلقه في شئ من صفاته.
وأما قوله في هذا الحديث (فإن الله قبل وجهه إذا صلى) وفي لفظ (فإن ربه بينه وبين القبلة)
فهذا لفظ محتمل يجب أن يفسر بما يوافق النصوص المحكمة كما قد أشار الإمام ابن عبدالبر الى ذلك ولايجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على مايناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة. والله أعلم. اهـ
وقال العثيمين في الشرح الممتع (3/ 270) أن في الحديث اشكالان:
الإشكال الأول: كون الله قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، كيف يكون ذلك، ونحن نؤمن، ونعلم بأن الله تعالى فوق عرشه؟ والجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنه يجب على الإنسان التَّسليم، وعدم الإتيان بـ «لِمَ» أو «كيف» في صفات الله أبداً، قل: آمنت وصَدَّقت، آمنت بأن الله على عرشه فوق سماواته، وبأنه قِبَلَ وجه المصلِّي، وليس عندي سوى ذلك، هكذا جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريق تزيل إشكالات كثيرة، وتَسْلَم بها من تقديرات يقدِّرها الشيطان، أو جنوده في ذهنك.
الوجه الثاني: أنَّ النصوص جمعت بينهما، وهذه ربَّما تكون متفرِّعة مِن التي قبلها، والنصوص لا تجمع بين متناقضين؛ لأن الجَمْعَ بين المتناقضين محال، ومدلول النصوص ليس بمحال.
الوجه الثالث: أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لا يُقاس بخلقه، فهبْ أنَّ هذا الأمر ممتنعٌ بالنسبة للمخلوق – أي: ممتنع أن يكون المخلوق على المنارة، وأنت في الأرض، وهو قِبَلَ وجهِكَ - لكن ليس ممتنعاً بالنسبة للخالق؛ لأن الله ليس كمثله شيء حتى يُقاس بخلقه.
الوجه الرابع: أنه لا مُنافاة بين العلوِّ وقِبَلَ الوجه، حتى في المخلوق، ألم ترَ إلى الشمس عند غروبها أو شروقها؟ تكون قِبَلَ وَجْهِ مستقبلها وهي في السماء، فإذا كان هذا غير ممتنع في حَقِّ المخلوق فما بالك في حَقِّ الخالق؟
وأهمُّ هذه الأجوبة عندي، وأعظمها، وأشدُّها قدراً: الجواب الأول؛ أن نقِفَ في باب الصفات موقف المُسَلِّم لا المعترض، فنؤمن بأن الله فوق كُلِّ شيء، وبأنه قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي، ولا نقول: «كيف»، ولا «لِمَ»، وهذا يريح المُسلم من كُلِّ ما يورده الشيطان وجنوده على القلب مِن الإشكالات.
يقول لك: هذا كيف يمكن؟ إذاً؛ يلزم أن تقول بالحلول، أن الله في الأرض، ثم يورد عليك هذا الإشكال، فتقول: أنا أؤمن بأنَّ الله فوقَ كلِّ شيء، وأنه قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي كما جاءت به النُّصوص، ولا أتعدى هذا. اهـ
ثم ذكر الاشكال الثاني في البزاق على اليسار ..
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (3/ 157):
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه) أو (إن ربه بينه وبين القبلة) يدل على قرب الله تعالى من المصلي في حال صلاته ..
وقد تكاثرت النصوص بذلك، قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء.
¥