تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وزعم بعض من تحذلق أن ما قاله هؤلاء الأئمة خطأ؛ لأن علم الله صفة لا تفارق ذاته، وهذا سوء ظن منه بأئمة الإسلام؛ فإنهم لم يريدوا ما ظنه بهم، وإنما أرادوا أن علم الله متعلق بما في الأمكنة كلها ففيها معلوماته، لا صفة ذاته، كما وقعت الإشارة في القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98] وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].

وقال حرب: سألت إسحاق عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]؟ قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه.

وهذا كله يدل على أن قرب الله من خلقه شامل لهم، وقربه من أهل طاعته فيه مزيد خصوصية، كما أن معيته مع عباده عامة حتى ممن عصاه؛ قالَ تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108]، ومعيته مع أهل طاعته خاصة لهم، فهوَ سبحانه مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون. وقال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وقال في حق محمد وصاحبه {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: (ما ظنك بأثنين الله ثالثهما).

فهذه معية خاصة غير قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الآية، فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه وإطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه. والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته، فكذلك القرب.

وليس هذا القرب كقرب الخلق المعهود منهم، كما ظنه من ظنه من أهل الضلال، وإنما هو قرب ليس يشبه قرب المخلوقين، كما أن الموصوف به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].

وهكذا القول في أحاديث النزول إلى سماء الدنيا فإنه من نوع قرب الرب من داعيه وسائليه ومستغفريه.

وقد سئل عنه حماد بن زيد فقال: هو في مكانه يقرب من خلقه كما يشاء.

ومراده أن نزوله ليس هو انتقال من مكان إلى مكان كنزول المخلوقين.

وقال حنبل: سألت أبا عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قالَ: نعم. قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إلا بما جاءت به الآثار، وجاء به الكتاب، قال الله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] ينزل كيف يشاء، بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب، عز وجل.

ومراده: أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين، بل هو نزول يليق بقدرته وعظمته وعلمه المحيط بكل شيء، والمخلوقون لا يحيطون به علما، وإنما ينتهون إلى ما أخبرهم به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله.

فلهذا اتفق السلف الصالح على إمرار هذه النصوص كما جاءت من غير زيادة ولا نقص، وما أشكل فهمه منها، وقصر العقل عن إدراكه وكل إلى عالمه. اهـ بتصرف

ومما قاله ابن جماعة نفسه في إيضاح الدليل (1/ 195):

وتأويله عندنا بحذف مضاف تقديره فإن قبلته التي أكرمها وأمر باستقبالها قبل وجهه فيجب احترامها لأجل من يضاف إليها،، وقيل معناه فإن ثواب الله قبل وجهه أي يأتيه الثواب والرحمة والقبول من قبل وجهه.

وقوله فإن ربه بينه وبين القبلة معناه: أن توجهه إلى القبلة مفض إلى قصده لربه فصار كأن مقصوده بينه وبين القبلة فيجب احترامها. اهـ

وقال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على حذف مضاف أي عظمة الله أو ثواب الله.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (9/ 466): وأما قوله في هذا الحديث (فإن الله قبل وجهه إذا صلى) فكلام خرج على التعظيم لشأن القبلة وإكرامها والله أعلم والآثار تدل على ذلك مع النظر والاعتبار وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة في أن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش وهذا جهل من قائله، لأن في الحديث الذي جاء فيه النهي عن البزاق في القبلة أنه يبزق تحت قدمه وعن يساره وهذا ينقض ما أصلوه في أنه في كل مكان. اهـ

سادسا: أن هذا على الحقيقة لا المجاز، كما يقول العامة: الله بيني وبينك .. فإنه لم يرد ذات الله وإنما أن الله مانعه منه ..

والقول بظاهر الحديث وما في معناه يثبت أن الله يرى المصلي ويقرب منه بعلمه، وإلا لزم القول بالحلول لكثرة المصلين للقبلة في كل بلد وهذا لا يقول به المعترض.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 102 - 107):

{إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه} الحديث حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى - ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به} فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر: كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر. أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ

والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير