قال العلامة الشنقيطي: ((ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية و لم يتعلمه المسلمون لكان دينهم وعقيدتهم في غنى عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما ترجم وتعلم وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتة في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات، لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.))
قلت: هذا الكلام الجيد و المتين و إن استلزم ــ في المقام الثاني ــ ضرورة الاستجابة لهذه الحاجة، و تعلم المنطق لحفظ الحق من الشبهات العقلية، و الدعوة إليه بالتجاوب مع الواقع من خلال الاطلاع على لغة المخالف العلمية و مصطلحاته الخاصة.
فإنه في المقام الأول يقرر حقيقة بالغة الأهمية وفاصلة في مصدر المعرفة وطرقها، وهي أن الدين الإسلامي دين كامل مستغن بنفسه عن المنطق الصوري.
و هذا يستلزم أن هذا الاستغناء ليس لأن المعرفة البشرية معرفة منفصلة عن بعضها البعض، أو غير متجانسة الموضوعات، لأن ما يقرره الإسلام يبحث فيه الفلاسفة بقانون المنطق الصوري.
وهذا يستلزم ضرورة أن مصادر التلقي: الكتاب و السنة تحمل منهجا معارضا مناقضا للمنطق الصوري، أو في أقل الأحوال مستقلا عن غيره.
هذا هو البحث الواجب على علماء الإسلام: استخراج هذا المنهج و استنباطه، ثم صياغته في شكل علم بديل للمنطق، هو منهج البحث الإسلامي، وطرق الاستدلال القرآنية، وهذا ما سنعرفه عندما نتكلم عن أصالة التفكير الإسلامي.
وعليه، فإن نقد الشيخ بدر الدين للمنطق الصوري لن يكون نقدا هداما فقط، بل يحمل كذلك البناء و الإنشاء، بالإشارة إلى طرق الاستدلال و الاستنتاج القرآني الخالصة، وطرق الاستدلال و الاستنتاج في أنواع المنطق الأخرى، التي توافق منهجنا، ولا تعارضه.
إن كلام العلامة الشنقيطي يلزم علينا أن نفرق فرقا جوهريا بين تكميل عمله وبين ترديد أقواله، و الوقوف حيث وقف دون فهم للتبعات.
ذلك أن الترديد في العلم هو نظم الكلمات دون تصور معانيها، و بالتالي نأخذ ما نسمعه أو نقرأه من دون معرفة مدلوله بالضبط، وهذه هي اللفظية في العلم التي نحاول ما استطعنا اجتنابها.
ثم إن استكمال عمل الشنقيطي يقودنا إلى التفريق بين مهمتين علميتين:
1ـ مهمة الباحث الذي يسعى إلى اكتشاف المجهول بالنسبة له " علم المنطق" بطريقة منهجية موضوعية يقصد من خلالها إثراء المعرفة الشرعية بإضافة ما يفيدها أو دفع ما يناقضها، و تبريرها، و الجدال عنها.
ـ و مهمة الناقل و الشارح المحصورة في ترديد كلام السابق، و شرح معانيه؛ لاختلاف الوظيفتين.
ولا شك أن الإخوة لا يختلفون معي في أن عمل العلامة الشنقيطي عمل ناقل و شارح، بغض النظر عن شرحه إن كان مطابقا لتطلعات طلبة العلم المتفاوتة أم لا؟
فهل يمكننا أن نتعلم المنطق الصوري دون أن يؤثر علينا سلبا؟
وهل نملك الخلفية العلمية الشرعية الكافية، و الكفاءة الثقافية اللازمة للشعور بهذا التأثير و التنبه له؟
هذا ما سنعرفه في هذا المقال بإيجاز
الخروج من التعتيم العلمي و الضبابية المنهجية:
يلاحظ من يتتبع العلوم المنطقية و الفلسفية، وله عناية بالتّعرف على المذاهب الفكرية المعاصرة أو الحديثة، أنه يوجد فرق معرفي شاسع بين الجامعات الإسلامية و جامعات العلوم الإنسانية ـ في هذا المجال ـ.
فالجامعات الإسلامية تدرِّس المنطق الصوري كما وقف عنده المتأخرون من شراحه، كأنما كُتب عليهم الجمود على تلك الفترة؟!
بينما الجامعات التي تدرِّس العلوم الإنسانية تدرِّس المنطق الصوري عبر جميع مراحله، من تاريخ نشوئه الأرسطي إلى مرحلته الإسلامية، ثم مرحلة القرون الوسطى، ثم صورته في العصر الحديث.
و تدرِّس إلى جانبه أنواع أخرى من المنطق طلقت المنطق الصوري وزيّفت بنيته الفكرية نهائيا.
مثل: المنطق الرواقي و الاسمي و الاستقرائي و الرياضي، و مختلف التفاعلات بينها، إضافة إلى تدريس علم مناهج البحث، و الابستيمولوجيا بنوعيها العامة و التكوينية& shy;[3] .
و النتيجة أن المتخرج من هذه الجامعة يعيش معرفيا في هذا العصر، قد تحكّم في ثقافته، يدعو إلى مذهبه الحداثي العلماني أو الماركسي الإلحادي.
¥