تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفى كتاب "التفكير فى زمن التكفير" (بدءا من ص21) يعمم الكاتب تعميما خطيرا إذ يحمل على الخطاب الدينى كله فى كل العصور وفى كل البيئات حملة شعواء متهما إياه بأنه خطاب تكفيرى. وهو لون من الإرهاب يخوف به المتدينين حتى لا يفتحوا فمهم ويتركوا الساحة له كى يفعل ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، فتراه يصورهم وكأنهم ليس لهم شغلة ولا مشغلة إلا القول بأن فلانا أو علانا أو ترتانا كافر ابن ستة وستين، وهو أمر غير صحيح ولا معقول. ثم إننا نراه بعد قليل يتراجع شيئا ما فيقول إن المقصود بذلك هو الخطاب الدينى المعاصر وحسب. ثم بعد ذلك يتراجع مرة أخرى فيستثنى بعض الأشخاص ممن يقول عنهم إنهم يعيشون رغم ذلك فى الظل لا يظهرون للعيان، وليس لهم من ثم أى تأثير. وهو فى هذا وذاك لا يحلل ولا يمحص ولا يتحقق مما يقول بل يلقى الكلام على عواهنه بعبارات إنشائية رنانة طنانة لا تسمن ولا تغنى من جوع حتى ليظن من يقرأ كلامه ولا معرفة له بالواقع أن كل من يكتب أو يتحدث فى الدين ينهال تكفيرا على الناس عَمّالاً على بَطّال من الصباح للمساء، ومن ظلام الليل إلى نور النهار ... وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وفى فم أحدهم تكفيرة، فلْيلفظها حتى يبرئ ذمته أمام الله ويُعْذِر إليه سبحانه.

ومما أَجْلَبَ به د. نصر أبو زيد فى وجه المتدينين وهجومه على الخطاب الدينى قوله إن هذا الخطاب يقوم، فيما يقوم، على تغيير المنكر باليد (انظر ص69 من كتاب "نقد الخطاب الدينى"/ ط2/ سينا للنشر/ 1994م). لكن هل أصحاب الخطاب الدينى (والمقصود الخطاب الإسلامى وحده طبعا) هم دون غيرهم الذين ينادون بالتغيير عن طريق اليد؟ ترى كيف غيرت الثورة الفرنسية والإنجليزية والروسية والرومانية والإيرانية الأوضاع التعيسة البائسة التى كانت تنوء بها الشعوب؟ أليس عن طريق التغيير باليد؟ لكن المشكلة هى أن بعض الناس الطيبين يظنون أن التغيير باليد يمكن أن يتم وينجح ويحدث التغيير على يد فئة صغيرة من المخلصين تنتمى عادة إلى الجيش فيما يسمى بالانقلاب العسكرى. وهناك الجماعات الشبابية المتحمسة دون تبصر والتى تظن أن تغيير الأوضاع السياسية يمكن أن يتم بمعزل عن وعى العشب بحقوقه ومشاركته فى هذا التغيير بناء على هذا الوعى. وفاتهم أن مثل ذلك التغيير الذى لا ينبع من نفوس الشعوب ولا يتم بأيديها إنما هو تغيير سطحى، فضلا عن أنه لا يدوم. وقد يكون الأمر مجرد مؤامرة من جانب إحدى القوى الكبرى لإيهام الناس أن التغيير قد تم، والحمد لله، فلا داعى لاتخاذ أى تصرف آخر، ومن ثم يتم إجهاض الرغبة فى التغيير. أما فى الثورات المذكورة فلم يتم التغيير إلا على يد طوائف الشعب بعدما استجابت لدعوات مصلحيها ولم تبق جالسة على المساطب تلعب السيجة والكوتشينة أو تكتفى بالغناء والرقص وهز الأرداف مدحا للتغيير دون أية مشاركة فيه. أما الانقلابات العسكرية وما شابهها فتنتهى دائما إلى الاستبداد والهزائم والتقهقر والفساد الذى يعصف بكل شىء. المهم أن د. نصر أبو زيد يدين الخطاب الدينى مع أن أعظم التغييرات فى التاريخ إنما تمت باليد، يد الشعوب صاحبة المصلحة.

وقد كنت قديما أستغرب الحديث النبوى الكريم الذى يقول: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" ولا أحقق معناه، وبخاصة حين أرى بعض الناس يستشهدون به لإسكات كل نقد يمكن أن يوجَّه للحاكم، الذى هو فى كثير من بلاد المسلمين حاكم غشوم فاسد ظالم، إلى أن استنارت بصيرتى وفهمت عبقرية الرسول العظيم. ذلك أن الحديث يخلو تماما من أية مساندة للاستبداد أو تثبيط لهمم المصلحين والمنتقدين، بل المقصود به التنبيه إلى أن الأقلية التى لا يعجبها شىء فى سياسة الحكومة لا ينبغى أن تهب للتو ثائرة على الأوضاع متصورة أنها هى كل الشعب، ومن ثم فمن حقها أن تقوم فى الحال فتغيّر ما ترى أنه فساد وانحراف، إذ إن عواقب مثل هذا التصرف وخيمةٌ بشعة الوخامة. أما التصرف السياسى الحكيم الناجع فهو توعية المصلحين للناس من حولهم والمجاهدة بالكلمة. وعندئذ، وعندئذ فحسب، يستطيعون أن يحققوا ما يريدون من تغيير، وإلا فلا. وهذه هى فلسفة الحكم الشورِىّ والديمقراطىّ. أما الانقلابات العسكرية فإنها سبيل أكيد إلى الضياع والطغيان والفساد، الذى نشاهده عيانا بيانا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير