تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهم الشيوعيون.

ويوجد بعض الفلاسفة والمفكرين يقولون إن الإله ليس أمرا في الحقيقة إلا نفس العالم، وهم القائلون بوحدة الوجود المادية أو الروحية، فيقولون إن العالم هو الإله، أو الإله هو العالم.

وأنواع هذه الفرق أكثر من أن أحصيها هنا، وإنما أردت مجرد التمثيل لها. فهؤلاء كلهم يزعمون أنهم ينظرون في العالم نظرا مجردا عن الأهواء وينسبون لأنفسهم النظر الموضوعي المجرد عن الأغراض والدوافع، ويتَحَدُّون غيرَهم أن يثبتوا غلطهم فيما يدعون. وهم لا يؤمنون إلا بالأفكار العقلية المجردة، كما يدعون. وهؤلاء لا يرون في الأديان حجة، ولا أهمية لها عندهم، إلا كأهمية غيرها من النظرات الإنسانية التي قد تؤثر في تحريك البشر والتأثير على تصرفاتهم، فهم إنما يهتمون بها من هذه الناحية العملية المطلقة، أما أن تكون الأديان مصدرا للمعرفة ولو في أي مستوى من مستويات المعرفة، فلا.

ومن معرفتك لحقيقة أقوالهم، فإنك تعرف أن هؤلاء لا يمكن مخاطبتهم إلا بالأدلة العقلية المجردة، وهي عين الأدلة التي يدَّعون الانتساب إليها، ونحن نعرف أن هذا الادعاء عارٍ عن الدليل البرهاني الحقيقي، فلا نسلمه لهم على إطلاقه، وإنما هذه الأدلة المزعومة قائمة على مغالطات بعضها مقصود وبعضها تلبسوا به بالعَرَضِ.

ومن كان هذا شأنه، فالطريقة الصحيحة لمناقشته وبيان غلطه فيما ادعاه إنما تكون بالأدلة وطرق النظر العامة التي يشترك فيها كافة البشر، ولا يستطيع أحد أن يغالط فيها، وهذه هي حقيقة القوانين المنطقية، أي القوانين التي يشرحها علماء المنطق في كتبهم. ولا يستطيع أحد من المغالطين أن يدعي أننا إنما يجب أن نناقشهم بالأدلة والنصوص المأخوذة من الكتاب والسنة، بقيد استنادها إلى الكتاب والسنة. فإن من يقول بهذا المذهب يكون ضحكة الأولين والمتأخرين من العقلاء، ويكون أيضا قد خالف ما قرره الدين الحق نفسه، فقد قال الله تعالى (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل (125)، فالحكمة يناسب تفسيرها بالبراهين والحجج القوية، وأما الموعظة الحسنة فيناسب أن تحمل على الطرق الخطابية اللائقة بعوام الناس، وقوله تعالى (وجادلهم .. ) صريح في الطريقة الجدلية اللائقة لبعض الناس.

وأنت ترى أن كلا من هذه الطرق الثلاثة هي إحدى الطرق التي ذكرها أهل المنطق في كتبهم، فإنهم يذكرون أن القياس المؤلف من القضايا اليقينية يسمى برهانا، وذكروا أن القياس المؤلف من القضايا المشهورة والمسلمات يسمى جدلا، وأن القياس المؤلف من المقبولات والمظنونات يسمى خطابة، وقد يدخل فيه أيضا القياس المؤلف من قضايا مخيلة والمسماة قياسا شعريا، لمخاطبته العواطف لتحصيل انفعال النفس والتأثر. فأنت ترى أن نفس المراتب الثلاثة التي نصت عليها الآية الكريمة قد ذكرها أهل المنطق، ولذلك نقل العلامة السبزواري ناقلا عن العلامة الشيرازي في شرح حكمة الإشراق قوله:

"ومن طلب العلوم التي لا يُؤْمَنُ فيها الغلط ولا يَعْلَم المنطق، فهو كحاطب ليل، وكرامد العين لا يقدر على النظر إلى الضوء لا لبخل من الموجد، بل لنقصان الاستعداد، والصواب الذي يصدر من غير المنطقي كرمية من غير رام، وكمداواة عجوز".

ثم قال: "والمنطق يصلح لأبناء الملوك الذين يتوقع منهم أن يصيروا ملوكا، لا ليعلموا الاقترانات الشرطية ولوازم المتصلات والمنفصلات، بل ليعرفوا الصناعات الخمس، ويقدروا على مخاطبة كل صنف من الناس بما يليق بحالهم، على ما قال (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فالحكمة لمن يطيق البرهان، والموعظة الحسنة لمن لا يطيقه، والجدل للمقاومة لمن ينتصب للمعاندة"اهـ.

والحقيقة أن الأدلة على ذلك من القرآن أكثر من أن تحصى، ولا ينكر ذلك إلا معاند، أو متلبس ببدعة يخاف أن يظهر بطلانها إذا عرضت على محك النظر.

والذي أريد أن أبينه الآن، هو بعض الأمثلة التي تبين مدى الفائدة التي يجنيها العارف بعلم المنطق في حلِّ بعض الإشكالات المتعلقة بعلم التوحيد وطرق الاستدلال في الفلسفة العامة.

مع ابن تيمية

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير