تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحقيقة أن الأمثلة التي يمكن أن نوردها من كلام ابن تيمية على المغالطات المنطقية التي وقع فيها، كثيرة جدا، ونحن سوف نخصص كتابا مستقلا لهذا الأمر لأهميته. وأما الآن فسوف نقتصر على مثال واحد فقط، وليس قصدنا فيه هو الرد على ابن تيمية فقط، بل قصدنا أصالةً هو بيان أهمية التفكير المنطقي الصحيح، وبالعَرَضِ الردُّ على ابن تيمية في ما قاله.

سنورد هنا نَصَّيْنِ لابن تيمية يوضح فيهما طريقته في الاستدلال على الأمور العقائدية، وسنعلق عليهما باستعمال قواعد علم المنطق، ولكن بشكل ميسَّر وذلك تقريبا لفهمها لدى القراء غير المتمكنين من قواعد علم المنطق.

النص الأول: ألف ابن تيمية رسالة خاصة بين فيها القواعد التي يمكن استعمالها في النظر في صفات الله تعالى، أي الأدلة التي يمكن اتباعها في هذا الموضوع، وهذه الرسالة هي"تفصيل الإجمال فيما يجب من صفات الكمال، والفصل فيما اتفق عليه وما اختلف فيه أهل الملل والنحل والمذاهب منها باختلاف الدلائل العقلية والنقلية فيها". وقد عرض ابن تيمية بعض طرق الاستدلال على صفات الله تعالى، التي يرتضيها هو وطائفته الذين يسميهم بأهل الإثبات، وهؤلاء المثبتة في الحقيقة هم عين المجسمة، فلا تتوهم أيها القارئ أن المراد بهم أهل السنة.

قال في هذه الرسالة:

"فيقول لهم أهل الإثبات: هذا باطل من وجوه

أحدها: أن يقال: الموجودات نوعان، نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي ونوع لا يقبله كالجماد، ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل مما لا يقبل ذلك، وحينئذ فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها."اهـ

أقول: هذا الكلام إلى هذا الحد، يمكن أن يقبل، لأنه يتكلم عن مطلق الموجود، ومعلوم بالبداهة أن الموصوف بالكمال أكمل من غير الموصوف بذلك. هذا الكلام لا يمكن أن يخالفه أحد.

فحاصل القضية أن تقول: الاتصاف بالكمال المحض، أكمل من عدم ذلك. يعني: "أن كل كمال محض فالموصوف به أكمل من غيره". هذا هو حاصل القضية التي لا نخالف ابنَ تيمية فيها. ولكن ينبغي أن ندقق بشكل أكبر في مفهوم الكمال المحض الذي ذكرناه، فمقصودنا بالكمال المحض أي الذي يعتبر كمالا بالنظر لأصل الوجود، لا بالنظر لأصل الموجود. فمعلومٌ أن الوجود هو عبارة عن مفهوم ذهني، وهذا المفهوم لا يساوي الموجود، إلا عند من يقول بأن الوجود هو عين الموجود، وحتى هذا، فإنه لا يمنع أن يطلق الوجود على المعنى الإضافي أو الاعتباري المقول على كثيرين بالتواطؤ. وعلى ذلك فإن كل ما حكم العقل بأنه كمال لأصل الوجود، فيلزم أن كل ما اتصف به من الموجودات أكمل مما لم يتصف به. ولكن هذا لا يلزم إذا حكم العقل أن الأمر المعين إنما هو كمال لموجود بعينه أو لجنس أو نوع من الموجودات. الزواج لجنس الإنسان أكمل من عدم الزواج. فالزواج هو كمال لا لأصل الوجود، بل هو كمال لوجود الإنسان. وحينذاك لا يجوز أن يقال، إذا كان الزواج كمالا، فكل ما ليس بمتزوج أنقص من المتزوج! لأن هذا القول هو عبارة عن مغالطة، لأنك بهذا تكون قد استندت إلى الخاص لتحكم على العام. والمقصود بالخاص هنا ما يصدق على البعض، فما يصدق على البعض ولا يصدق على كثيرين، لا يجوز الحكم به على الكثيرين. فتأمل.

هذا كان مقدمة للدخول في الموضوع. وهو ما يطلق عليه في علم المنطق بالقضية الموجهة، أو المعنونة، أي القضية التي ارتبط الحكم فيها بعنوانها. وهي تقارب القضية المشروطة، فالقضية المشروطة لا يجوز تعميم حكمها إلا على ما تحقق فيه الشرط والعنوان، وأما ما لم يتحقق فيه ذلك، فلا يجوز الحكم عليه بذلك. وكثير من الناس يستعملون قضايا ويحكمون على المواضيع بدون الإشارة إلى كونها مشروطة، أي كون الموضوع مشروطا بشرط، وهذا، أي عدم ذكر الشرط يسمى في المنطق بعدم توجيه القضية، فالقضية غير الموجهة، قد يدخل فيها إشكالات عديدة، ولذلك فهي تستعمل كثيرا في المغالطات والمجادلات التي لا يكون الهدف فيها إلا إفحام الخصم لا الوصول إلى الحق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير