المقصود من المنطق في الحقيقة هو تلك القواعد التي يتبعها الإنسان العاقل السليم الخلقة والصائب في التفكير إذا فكر وأثناء تفكيره. فقد حاول العلماء أن يستقرئوا هذه القواعد ويحددوها، ويستنبطوا ما أمكن من الطرق ثم يدونوها في كتب لكي يسهل على الناس تعلمها والانتباه إليها، فإذا كان هذا هو ما يقصده ابن تيمية بقوله "فأكثر الفطر السليمة تستقل به"، فإن كان يقصد بهذه العبارة: إن هذه القواعد موجودة في الفطرة السليمة، فإن قوله مغالطة، لأن ما تستقل به هذه الفطر السليمة هو حقيقة المنطق محل الكلام، وليس أمرا آخر غير المنطق، فكيف يقول ابن تيمية بعد ذلك إن الفِطَرَ تستقل به، فهل يستقل بالشيء عن عين الشيء؟!
فإذا قيل إنه يقصد إن الفطر السليمة تستقل عن تعلم المنطق من الكتب، يقال: إن القواعد المكتوبة في الكتب لا يقال إنها المنطق في نفسه كما سبق ذكره، ولكنها كتابة للمنطق وتعبير عن المنطق، بل المنطق في نفسه هو عين تلك القواعد التي يستخدمها الإنسان أثناء تفكيره لا بقيد وجودها في كتب أو في حافظة الإنسان، فكيف يجوز له أن يقول إن الفطر السليمة تستقل به؟!
فهذا هو بيان المغالطة.
وأما إن قصد إن الفطرة لا تعتمد في تفكيرها على أي من هذه القواعد المذكورة في كتب علم المنطق، فإن جماهير العقلاء يناقضونه في هذا القول.
وأما قوله:"إن البليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه" فهو غير مسلم، فإن البليد إذا زاول الأمر وكرره على نفسه فإنه يترسخ فيه ويستحضره وينتفع به، وهذا هو المسمى بالعقل المكتسب عند العلماء أو الذكاء المكتسب، فإذا كنا نقول بحقية تلك القواعد في نفس الأمر، فلا يجوز أن يقال إن البليد لا ينتفع بها إذا تعلمها.
وكذلك لا يجوز أن يقال إن الذكي يستغني عنها، فإن هذا القول يستلزم أن الذكي لا يخطئ أبداً، ولكن لا يوجد ذكي واحد لم يقع في خطأ فضلا عن أخطاء عديدة، بل لا يوجد إنسان معصوم عن الخطأ غير الأنبياء وهؤلاء إنما عصموا بعصمة الله تعالى لهم، فإذا سلمنا أنه لا ذكي إلا ويخطئ، فكيف يمكن دلالة هذا الذكيِّ على خطئه أو تعرفه إليه إلا من خلال اتباع قواعد عامة يفحص بها الذكي معاني ما يقوله ويفكر فيه ويحاكم بها تفكيره بعين القواعد المأخوذة من عقله السليم. وهذه القواعد هي بعينها المنطق.
فيلزم إذن احتياج الذكي والبليد إلى علم المنطق، وبالأولى ما بينهما من طبقات من الناس. ويبطل كلام ابن تيمية.
بل عدم احتياج الذكي إلى تلك القواعد يستلزم عدم احتياجه إلى لوازم فطرته على حدِّ قول ابن تيمية أو إلى ما هو جزء منها، بل القول بذلك يستلزم القول بعدم احتياج الذكي إلى قواعد مطلقا وهو غير صحيح.
سادسا– المفاسد ناتجة عن المنطق
أما ادعاء ابن تيمية بأن المفاسد ناتجة عن المنطق فهو غير صحيح، بل المفاسد يمكن أن يقع فيها الواحد لا لمجرد التزامه بدراسة علم المنطق بل إن كثيرا من المفاسد وقعت ممن هم أكثر الناس قربا إلى علم الحديث، فقد كثر فيهم التجسيم والعقائد الفاسدة، ولا يقال إن سبب وقوعهم في هذه المفاسد إنما هو التزامهم بالحديث، بل هو سوء تفكيرهم وسذاجة تدبرهم لمعانيه. وكذلك إذا وقعت مفسدة ممن هم متخصصون بعلم المنطق فلا يقال إن علمهم بالمنطق هو سبب هذه المفسدة، بل سببها هو سوء تدبرهم وتعقلهم أي ممارستهم لنفس هذه القواعد.
سابعا– ادعى البعض أنه كله كلام حق
وأما قوله إن البعض ادعى أنه كله كلام حقٌّ، فإذا قصد هذا القائل ما قلناه عن المنطق في نفسه فهو صحيح، وحاصل قوله عندئذ: إن كل ما هو قاعدة صحيحة للتفكير فهو حق، أي إن كل ما هو قاعدة إذا التزم بها الإنسان في تفكيره تعصمه عن الخطأ فهذه القاعدة صحيحة وحقٌّ، فيكون كلامه صحيحا.
أما لو قصد أن كل ما كتبه المناطقة في كتب المنطق صحيحٌ، فهذا الكلام باطل، وأنا لم أعرف حتى الآن واحدا قال بهذا المعنى. وابن تيمية في رده على من يقول بذلك يفهم من كلامه أنه يوجد من قال بذلك، وعليه أن يبين لنا هو أو أحد أتباعه من هو القائل، أو يصبح كلامه مجرد ادعاء لا دليل عليه.
هذا كان تحليلا سريعا ومختصرا لكلام ابن تيمية الذي يُجْمِلُ فيه رأيَه في علم المنطق، بَيَّنَّا نحن أن كلامه غير منطقي مطلقا وغير صحيح.