قال في التبصير في معالم الدين ص126 - 127: " لن يستحق أحد أن يقال له: إنه بالله عارف المعرفة التي إذا قارنها الإقرار والعمل استوجب به اسم الإيمان، وأن يقال له: إنه مؤمن، إلا أن يعلم بأن ربه صانع كل شيء ومدبره، منفرداً بذلك دون شريك ولا ظهير، وأنه الصمد الذي ليس كمثله شيء، العالم الذي أحاط بكل شيء علمه، والقادر الذي لا يعجزه شيء مما أراده، والمتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت، وأن يعلم أن له علماً لا يشبهه علوم خلقه وقدرة لا تشبهها قدرة عباده وكلاماً لا يشبهه كلام شيء سواه، وأنه لم يزل له العلم والقدرة والكلام ".
قال مقيده عفا الله عنه: موضع الشاهد من كلامه هنا هو قوله: " والمتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت ".
وفي هذا إشارة إلى إثبات صفة الكلام ببيان عدم جواز ضدها وهو السكوت أو الخرس، وهذا مسلك عقلي مستقيم، احتج به كثير من الصفاتية.
قال شيخ الإسلام في تقرير الطرق العقلية لإثبات صفة الكلام: " أحدها: أن الحي إذا لم يتصف بالكلام لزم اتصافه بضده: كالسكوت والخرس، وهذه آفة يتنزه الله عنها، فتعين اتصافه بالكلام، وهذا المسلك يسلكونه في إثبات كونه سميعاً بصيراً أيضاً، فإنه إذا كان حياً ولم يكن سميعاً بصيراً لزم اتصافه بضد ذلك من الصمم والعمى " (1).
وهذا المسلك لا يلائم قول الأشعرية في الكلام النفسي، لأن الوصف بالكلام النفسي لا يضاد الوصف بالخرس والسكوت، وبهذا الإلزام ألزمهم العلماء على بطلان قولهم بالكلام النفسي.
قال الشيخ العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني شيخ الشافعية باليمن المتوفى سنة 558 هـ في رده على الأشعرية: " والجواب الرابع: لو كان ما في النفس كلاماً لكان الساكت أو الأخرس إذا زور في نفسه كلاماً سمي متكلماً، فيؤدي إلى كونه أخرس متكلماً، أو متكلماً ساكتاً في حالة واحدة، وهذا محال " (2).
وقال شيخ الإسلام عن هذه الحجة: " إنَّمَا تعْقِلُ فِي الْكَلَامِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ إذَا فَقَدَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَهُوَ السَّاكِتُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَخْرَسُ، وَأَمَّا مَا يَدْعُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَذَاكَ لَا يُعْقَلُ أَنَّ مَنْ خَلَا عَنْهُ كَانَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ فَلَا يَدُلُّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَالِيَ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ " (3).
وقد بين الإمام أبو نصر السجزي أن هذا الإلزام ألجأهم إلى قولهم: إن الأخرس متكلم! قال: "فألجأهم الضيق مما يدخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليس بأضداد الكلام وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه.
ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر بل يجانب ويقمع، ولكن لما عدم من ينظر في أمر المسلمين مُحنَّا بالكلام مع من ينبغي أن يلحق بالمجانين " (4).
والقصد: أن الكلام الذي أثبته ابن جرير هنا لو كان مراده به الكلام النفسي لكان قوله بعد ذلك: " الذي لا يجوز عليه السكوت " لغواً، لأن الكلام النفسي لا ينافي السكوت، فتبين مفارقته للأشعرية في اعتقادهم، والله أعلم.
أما قوله: " وأنه لم يزل له العلم والقدرة والكلام " فهو مطابق لاعتقاد السلف الأعلام، كما قال الإمام أحمد في رواية حنبل: " لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا ".
تنبيه:
ليس في قول الطبري هنا: " " الذي لا يجوز عليه السكوت " نفي لكون الله تعالى يتكلم بقدرته ومشيئته، وأنه يتكلم إذا شاء، لأن الكلام والسكوت المتعلقان بالمشيئة عند أصحاب الكلام النفسي سواء في النفي، فلا يجوِّزُون أن يقال: إن الله يتكلم بمشيئته، كما لا يجوِّزُون أن يقال: إن الله يسكت بمشيئته، فلو كان هذا مراد الطبري بالكلام والسكوت لقال: لا يجوز عليه السكوت ولا يجوز عليه الكلام!، وهذا ظاهر جداً، والعجب ممن جعل كلام الطبري محتملاً لهذا المعنى (5).
¥