تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولكن الذي يدهش أركون أن المسلمين لا يعيرون هذه القضية شأناً، بل يعيشون مع القرآن ويستهدون به ولا يشكّون في نسبته إلى الله، ولايشكل لهم أزمة، فهو يلاحظ أن المسلمين متجاوزين لهذا السؤال أصلاً، وهذا أمر يزعج أركون، لأنه غير مقتنع بذلك، ويريد أن تكون للمسألة صدى، يريد أن يعتبر المسلمون أن هذا سؤال ملح فعلاً ولا يوجد فيه يراهين حقيقية، كما يقول أركون:

(وبسبب أن القرآن قد أصبح حقيقة معاشة من قبل المسلمين، على كل مستويات الوجود الفردي والجماعي، فإن أي تساؤل يتعلق بمدى صحته كوثيقة تاريخية يصبح مسألة ثانوية أوهامشية) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، أركون، 129].

تهميش هذا السؤال، والاعتقاد الجازم بأن القرآن من الله؛ أمر كرر أركون تأذيه منه.

وتبعاً لكونه يستغرب من اعتقاد المسلمين بنسبة القرآن إلى الله، فهو -أيضاً- يستغرب وبنفس الدرجة كون المسلمين يعتقدون أن الشريعة من الله، كما يقول أركون:

(السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي؟) [تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، 296].

وهاتان القضيتان السابقتان كانتا واضحتان بشكل مبكر لدى أركون؛ أعني صحة نقل القرآن إلينا عبر المصحف، وصحة نسبة هذا القرآن إلى الله، فكلا المسألتين كان أركون يعاني فيهما من توترات وشكوك وارتيابات، كما يقول في توضيح العناية بكلا المسألتين:

(ينبغي التمييز بين الصحة التاريخية للمصحف، والصحة الإلهية) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، أركون، 83]

أعتقد أن سلسلة الأسئلة سوف تتابع، دعنا ننتقل إلى سؤال أعلى من السؤال السابق: طالما أن أركون يرى أنه لايوجد براهين كافية على صحة نسبة القرآن إلى الله، (وأظن أن مسألة الصحة الإلهية للقرآن هي أول بحث نشره ولست متأكداً من ذلك)، فإن السؤال الذي يلي ذلك: هل أركون إذن مؤمن بالله، أم لديه إشكالية في هذا الأمر أيضاً؟

الحقيقة أن أي قارئ لكتابات أركون يدرك أن الرجل كان لديه قلقاً كبيراً حيال مسألة الإيمان بالله، تارة يقترب من هذا السؤال بشكل مباشر، وتارة يرى أنه سؤال غير مهم، سواءً إيجاباً أو سلباً، وإنما المهم الوظيفة التي يؤديها الاعتقاد (المنهج الوظيفي في دراسة الأديان)، ومع ذلك كله فلا يرتاب قارئ لكتابات أركون أن الرجل كان يعاني من حيرة شديدة في هذا الموضوع تلمس حرارتها بين السطور.

سأضرب بعض الأمثلة التي توحي بهذه الحيرة، ففي أحد المواضع من كتبه كان أركون يعتبر أن مفهوم (الله) إنما اخترعه النبي والصحابة ليصارعوا به خصومهم السياسيين في الجزيرة، كما يقول أركون:

(نلاحظ أن الجماعة الجديدة الطالعة قد بلورت مفهوم "الله" من جديد، ليس من أجل مضامينه الخاصة الصرفة، وإنما بالدرجة الأولى من أجل تسفيه طريقة استخدامه من قبل أهل الكتاب) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، أركون، 101].

ولذلك يرى أركون أنه لا وجود "فعلي" لإله ثابت في الخارج، وإنما هو وجود ذهني في عقول الناس يتغير طبقاً لتغير تصوراتهم الذهنية، كما يقول أركون:

(على عكس ما تظن المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حي ومتعالٍ وثابت لا يتغير؛ فإن مفهوم "الله" لا ينجوا من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغير بتغير العصور والأزمان) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، أركون، 102].

وتحويل مفهوم (الله) إلى معنى ذهني مجرد لا وجود له في الخارج اتجاه مطروق بكثرة في الفلسفات الإلهية القديمة (يمكن مطالعة مناقشة الإمام ابن تيمية لهذه القضية في الصفدية حين تعرض لقول ابن سينا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق: 1/ 297 تحقيق رشاد سالم.)

ونتيجة لهذه الحيرة الأركونية في مسألة وجود الله فإن أركون لا يجد غضاضة في التعبير عن الله بألفاظ غير مؤدبة، وهذا كثير في كتبه، ومن أمثلة ذلك قوله:

(الله نفسه ينخرط مباشرة، حتى في المعارك السياسية، ضد أعدائه) [الفكر الاسلامي قراءة علمية، أركون، 147]

مثل هذه الأساليب في التعامل مع القرآن، ومع الله جل وعلا؛ لا تدع مجالاً للشك أن الكاتب يعاني من قلق كبير في الإيمان بهذه القضايا، يستحيل أن يكون القلب معموراً بالإيمان ويتلفظ بعبارات غير مؤدبة تجاه ربه، وكتاب ربه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير