(فيما يخص المستشرقين فقد لاحظنا ميلهم إلى مجرد نقل ما يقوله المسلمون عن الإسلام، من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، بشكل موضوعي، ولكنهم لا ينخرطون في المراجعات والتجديدات المنهجية والابستمولوجية التي أصبحت ضرورية) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، أركون، 110].
من المزعج لأركون جداً أن يقترف المستشرق جناية الموضوعية مع الإسلام!
وهذا ليس خاصاً بالمستشرقين، بل أي مفكر غربي يكتب كلاماً فيه بعض الإنصاف للإسلام والقرآن يهاجمه أركون مباشرة، كما يقول مثلاً:
(نلاحظ اليوم ظهور تيار آيديولوجي في الغرب، يدّعي الانتماء إلى المراسيم الجامعية، والتمسك بالقيم الأكاديمية في البحث، ولكنه ينشر ويعمم في اللغات الأجنبية شعارات الخطاب الإسلامي المعاصر، وكلامه الردئ المبتذل. أفكر هنا بالمؤلفات التبجيلية التي كتبها معتنقون جدد للإسلام كروجيه غارودي مثلاً) [تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، ص14، وحاشية ص 43].
على أية حال .. فالمراد أن ما يصنعه أركون من نقد في بعض الأحيان للاستشراق، وخصوصاً الاستشراق التقليدي، ليس في جوهره تراجعاً عن التطاول الاستشراقي على القرآن، بل هو رغبة في زيادة التطاول، فهو مزايدة من أركون على المستشرقين، باتجاه المزيد من التهجم على القرآن، والتشكيك فيه.
ومن هذه الكتب الاستشراقية الحاقدة يبني أركون تصوراته، ولا يرى أي غضاضة في الإشادة والتنويه بها، بل يزايد عليها ويطلب منها المزيد والمزيد من التهجم.
أعتقد أن السؤال الموضوعي هاهنا: وما الإشكال في هذه الدراسات الاستشراقية التي ينوه بها أركون؟
الحقيقة أن هذا سؤال موضوعي يستحق الجواب عنه، لكن يستحيل قطعاً في هذه الورقة المختصرة عرض كل الشواهد على لا علمية هذا الطابور الطويل من المستشرقين الذي يجرجره أركون معه في كتبه، وأن دراساتهم مبنية على الشكوك المحضة والتلفيق والخلط، ومتأثرة بالمحضن الاستعماري والتبشيري الذي يمولها.
ولكن من الممكن أن نعرض نماذج مختصرة على ذلك، فلنأخذ أشهر رمز يؤكد أركون أنه لم يفهم القرآن فهماً علمياً إلا بعد قراءة كتابه، وهو تيودور نولدكة ( Theodor Noldeke) المتوفي عام 1930م، والذي دشن موسوعة (تاريخ القرآن) والذي أصله رسالته للدكتوراة التي أنجزها عام (1858م) وقد اهتم بهذا العمل وواصل تطويره شفالي وفيشر وبرجشتر، ومن بعدهم بلاشير، وغيرهم كثير.
سنأخذ عينات من هذا الكتاب المؤثر على عقول أجيال المستشرقين الغربيين، ومعيدي إنتاج الاستشراق من العرب، حيث يعتبرون هذا الكتاب أرقى دراسة استشراقية حول القرآن، خذ مثلاً نماذج من الكتاب حتى تعرف مدى الجدية العلمية:
(في حين أن سورة الفاتحة تظهِر قرباً كبيراً من الصلوات اليهودية والمسيحية، فإن لسورتي القسم –الفلق والناس- خلفية وثنية واضحة، إن الذي وضع هذه الصلوات في مكانها الحالي في القرآن أراد لها أن تكون نوعاً من جدار حماية له) [تاريخ القرآن، نولدكة، 274]
يشكك نولدكة في صحة كون الفاتحة والفلق والناس من القرآن، ويرى أن الفاتحة مأخوذة من اليهود والنصارى، والفلق والناس مأخوذتان من الوثنية العربية.
ويقول نولدكة عن آية الرجم التي نسخ لفظها وبقي حكمها:
(لا يمكن أن تكون هذه الآية المسماة آية الرجم من القرآن لأن هذه القوانين الجزائية الرهيبة لم تظهر إلا بعد موت محمد) [تاريخ القرآن، نولدكة، 276].
يفترض أن رجم الزاني المحصن عقوبة تم اختراعها بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- ولذلك لا يمكن تكون آية الرجم آية منسوخة لفظاً من القرآن.
ومن المسائل التي أظهر نولدكة عناية بتفسيرها هي: ما سر اختيار ابوبكر لزيد بن ثابت ليجمع القرآن؟ ويفترض نولدكه من جملة خيالاته أن ذلك بسبب أن زيد بن ثابت شاب صغير وسيكون ابوبكر قادراً على تطويعه بخلاف الموظفين كبار السن، يقول نولدكة:
(أما عن شباب زيد بن ثابت فثمة تفهم عند الدارسين لهذا الموضوع، إذا ينتظر المرء من شاب مطاوعة أكبر لأوامر الخليفة، من موظف كبير في السن وعنيد) [تاريخ القرآن، نولدكة، 251].
¥