• ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص:56) فالخطاب هنا للرسول، فالهداية هنا منفية عن رسول الله، وفي آية أخرى يقول تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52) فأثبت الهداية للنبي، فهل هذا تعارض؟
بالطبع لا، وعلى من يرى في الآيتين تعارضاً أن يعيب عقله، فالهداية المنفية عن رسول الله هي الهداية الكونية التي كتب الله فيها في اللوح المحفوظ أهل الجنة وأهل النار، فالرسول ? لا يعلمها ولا قدَّرها، وأما المثبت للرسول فالهداية الشرعية، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) أي تُبين وتُرشد.
• وكذلك يقول قائل: اقرأ في القرآن قوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:74)، ويقول أيضاً: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، ويقول في آية أخرى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل:60)، ويقول: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27)، فهل يُضرب لله المثل أم لا؟
نقول: قبل أن تُقْدِم على أن تُقَدِّم عقلك على كتاب الله وتشك في كلام الله اسأل، قال تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، فلا تعارض بين الآيات، فالله سبحانه وتعالى لا يجوز في حقه نوعين من القياس، ويجوز في حقه نوع من القياس، فلا يجوز في حق الله قياس التمثيل وقياس الشمول، فقوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل:74) ينطبق على قياس التمثيل والشمول، وأما قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل:60) هذا قياس الأولى، فالغيبيات تُقاس بقياس الأولى، أما عالم الشهادة فيُقاس بقياس التمثيل والشمول.
• وكذلك قال تعالى في آية: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:63 - 64) فنفى عنهم الزراعة، وفي آية أخرى يقول: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح:29) فسماهم زراعاً، وقال يوسف ?: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) (يوسف:47)، هل هذا تعارض؟
نقول: باعتبار أن الله هو خالق الأسباب وهو الذي رتبها، وهو الذي يخلق النتيجة على سببها، والعلة التي تؤدي إلى معلولها، فالله هو الذي زرع حقيقةً، وباعتبار أن العبد يأخذ بالأسباب التي خلقها رب العزة والجلال سمَّاه زارعاً، فهذه بالنظر إلى توحيد الربوبية، وهذه بالنظر إلى توحيد الألوهية، وليس هناك أي تعارض.
• وكذلك قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) (الأنفال:17) فالذي قتل المشركين هنا هو الله، وفي آية أخرى يقول: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (البقرة:191)
نقول: الآية الأولى باعتبار النظر إلى الربوبية وأن الله هو الذي خلق الأسباب، وأنه سبحانه وفَّق في الرمي (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، وباعتبار أن العبد يأخذ بالتشريع والتكليف ويأخذ بالأسباب سمَّاه الله قاتلاً.
وهناك بعض النقاط سنتكلم عنها في المحاضرة القادمة، وهي:
- أيهما يُقدَّم على الآخر عند التعارض: العقل أم النقل؟
- من الذي يُقدم العقل على النقل؟
- من الذي يُقدم النقل على العقل؟
- كيف نُوصِّف التوصيف اللائق الذي كان عليه السلف وكان عليه الخلف؟
- هل العقل أصل في ثبوت النقل، أم أنه أصل في التعرف على النقل؟
- أيهما يُحسِّن أو يُقِّبح؟ هل العقل له دور في التحسين والتقبيح؟
- إذا قُدِّم العقل على النقل في باب الأخبار والغيبيات، كيف تظهر بدع الاعتقادات؟
- إذا قُدِّم العقل على النقل في باب الأوامر والشرائع والأحكام، كيف تظهر بدع العبادات؟
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.