فإذا قُدِّم العقل على النقل في باب الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات تظهر بدع العبادات، وهذا كثيرٌ جداً، فهناك بدع في الصلاة وبدع في الزكاة وبدع في الصيام ... ، وهذه البدع سببها أن الرسول أمر بأوامر، فترك هؤلاء منهج الرسول وبعقولهم فعلوا أشياءً بحسن نية يظنون أنها أفضل من كلام الرسول، ومن أمثلة ذلك:
قراءة سورة الفاتحة للأموات، فالنبي لما ذهب لزيارة الأموات قال: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، غفر الله لنا ولكم"، فهذا الذي قاله النبي،ولم يقرأ الفاتحة.
ولذلك يقال لمن يفعل ذلك: إن كانت قراءة الفاتحة أفضل من كلام الرسول، فأنتم تتهمون الرسول بالتقصير، وحاشاه، وإن كان كلام الرسول أفضل، فقد تركت الأفضل وذهبت خلف عقلك، ولنضرب مثالاً للتوضيح:
رجل اشترى الطابق السابع في عمارة، وأجَّر عمالاً لتجهيز هذا الطابق، فقرر رئيس العمال أن يُجهز الطابق الأول بدلاً من الطابق السابع، وأنهى تجهيز الطابق الأول بإتقان ودقة، فعند عودة صاحب الطابق السابع أخبروه بأنهم قاموا بتجهيز الطابق الأول، فقال لهم: إذاً، الأجرة تأخذونها من صاحب الدور الأول.
فلا يوجد عاقل يفعل مثل ما فعل هؤلاء العمال، وهذا في أمور الدنيا، فلماذا في أمور الدين لا يُلتزم بالشرائع والأحكام، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وموافقاً لسنة النبي.
قال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل الصابوني: "علامات أهل البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي واحتقارهم لهم،واستخفافهم بهم، وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة، وظاهرية ومشبِّهة اعتقاداً منهم في أخبار رسول الله أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة وهواجس قلوبهم الخالية من الخير وكلماتهم وحججهم الباطلة".
والإمام أحمد بن سنان القطان يقول: "ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يُبغض أهل الحديث، فإذا ابتدع الرجل نُزعت حلاوة الحديث من قلبه".
ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "صاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى ".
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: " اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يداً فيحبه قلبي".
ونختم المحاضرة بهذه القصة: بعدما مات الخليفة المأمون بسبب دعاء أحمد بن حنبل عليه، تولى الخلافة من بعده المعتصم، وكان المأمون قد أوصى المعتصم قبل موته بأن يسير على مذهبه وألا يترك أحمد بن حنبل حتى يجيبه إلى القول بخلق القرآن، فسجنه لمدة ثلاث سنوات، وناظروه في آخر خمسة أيام من رمضان، فكانوا يأتون له بكلام عقلي، فيرد عليهم بالقرآن والسنة، فكان مما احتج عليهم أحمد في مناظرته لهم بين يدي الخليفة المعتصم حديث الرؤية، الذي رواه بسنده عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: " كنا عند النبي، فنظر إلى القمر ليلة - يعني البدر – فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا". وأحاديث الرؤية من الأحاديث المتواترة، لكن لما سمع الحديث قاضي القضاة أحمد ابن أبي دؤاد انصرف متوجها إلي على بن المديني، وهو من كبار المحدثين، مستغلاً أزمته ومحنته وانقطاع راتبه من الدولة لمدة عامين بسبب وقفته للحق وعدم الاستجابة إلي القول بخلق القرآن، أعطاه عشرة آلاف درهم وما تأخر من مستحقاته، وقال لعلى: هذه هدية من أمير المؤمنين، ثم قال له: يا أبا الحسن ما تقول في حديث الرؤية؟ قال على: حديث صحيح، قال قاضي القضاة: هل عندك فيه شيء؟
قال على: يعفني القاضي من هذا، قال قاضي القضاة: يا أبا الحسن هذه حاجة الدهر فاجعل مخرجاً لضعفه، ولم يزل به حتى قال على: في الإسناد من لا يعول عليه ولا على ما يرويه وهو قيس بن حازم إنما كان أعرابياً، ففرح ابن أبي دؤاد وذهب مسرعا إلي مجلس المعتصم يجرح قيساً وينفي صحة الحديث، فعلم أحمد جهله، لأن المحدثين جميعا يعدلون قيساً فهو من أجود التابعين إسناداً.
ولذلك تأمل في عبارة ابن المبارك رحمه الله تعالى: " اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يداً فأحبه".
قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: " لا تمكنوا صاحب بدعة من جدل، فيُورث قلوبكم من فتنته ارتياباً".
قال ابن الماجشون رحمه الله تعالى: "سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول (اليوم أكملت لكم دينكم)، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
إذاً، تقديم العقل على النقل في باب الأخبار يؤدي إلى بدع في الاعتقادات، وتقديم العقل على النقل في باب الأوامر يؤدي إلى بدع العبادات.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.