مهمٌ جداً: (السياسة العِلْمِيَّة)
ـ[ذو المعالي]ــــــــ[21 - 07 - 02, 05:57 ص]ـ
السياسة العِلْمِيَّة
يشكو كثيرٌ من الناس آفاتٍ في طريق تحصيلهم العلم، بل يشكون عدم جدوى سلوكهم دَرْبَ (العلم).
و نرى في عباراتهم التوجع من فوات الأعمار في أشياءَ ظنوها علماً و ما هي بذاك.
و لهؤلاء أقول: إن الأمر قد عمَّ كثيراً من سالِكي دَرْبَ (العلم)، و صدحوا بصرخاتٍ مدوية أرجفت قلوب الغيورين على جانب (العلم) و جانب (العمل) و جانب (الإصلاح).
و هذا الخلل الكائنُ في صفوف طلاب (العلم) إنما عَوْدُهُ إلى إهمال (السياسة العلمية) و عدم مراعاتها.
إن أحوال المرء لا تكون فوضوية إلا ويصاحبها الفشل الدائم و عدم الاستفادة، و لا تكون مرتبةً مَسوسةً إلا كان لها نتاجٌ طيب و نفع مستمر.
و من ذلك (العلم) فإذا كان الطالب سالكاً فيه جادةً مسلوكة، و طريقة محفوظة حَظِيَ بعوائد الفوائد، و أما إذا كان سلوكه من خلال طريق خطرت، أو سبيل طرأ فسُلِكَ فإن عوائده بوائد.
لقد نال كثيراً من الناس ذمٌّ بسبب إهمال (السياسة العلمية)، كما نالَ غيرَهم مدحاً و حمداً في حسن (العلم) بسبب رعاية (السياسة العلمية).
إن (السياسة العلمية) حين نعرضُ للكلام عنها فإننا نحصرها في سياسة الطلب. و أعني بها: رعاية (السياسة العلمية) في وقت تلقي (العلم).
و هذه مما أولاها العلماء عنايةً تامةً، و رعايةً كاملة عامة.
و غالباً ما تكون الطريقة في الطلب مفتقرةٌ إلى معرفة (الشيخ) بأسلوب (التعليم)، و نجاح (السياسة الطلبية العلمية) و فشلها منوط بمعرفة الشيخ و عدمها.
و العُمْدَةُ في (السياسة الطلبية العلمية) هي اعتمادُ طريقةٍ آتت ثمارها، و أثبتت فوائدها. و أما الاعتماد على طريقة لمْ تُسْلَكْ و لم تُطْرَقْ فلا أظن أن نتاجها بذاك المؤتي لذته.
و قبيحٌ بطالب (العلم) أن يَعْمَدَ إلى طريقة يبتكرها فيسلكها في (العلم)، مهملاً بذلك نصح الشيوخ، و توجيه المربين.
كم كنا نسمع عن صبيانٍ شرعوا في المطولات فما جاوزوا مقدماتها، و كم سمعنا بأقوام من الشبان بدأوا في جرد المتون على تلقاء النفس فما خرجوا إلا بما دخلوا به.
و العَتَبُ مُرْسَلٌ إلى المشايخ كما هو إلى الطلاب، إذ إهمالهم التوجيه خلل يُحاسبون عليه، و يدانون به.
و كانت جادة العلماء قديماً و حديثاً معروفة مشهورة في (التعليم) فكان مسلكهم في تعليم الطلاب (العلم) ما يلي:
أولاً: التدرُّجُ في التعليم، فكانوا يبدءون بالطالب من الصغار ثم يرتقون به، و هذا حال الربانيين.
و التدرج على أنواعٍ ثلاثة:
أولها: تدرجٌ في الفنون، فيبدأ الطالب بالفنون الواجبة _ عيناً _ عليه، ثم الكفائي، ... .
ثانيها: تدرجٌ في المتون، و يكون بدءً بالمتن الصغير، ثم المتوسط، ثم الكبير.
ثالثها: تدرجٌ في الشرح، فيكون على مراحل ثلاثية على شاكلة التدرج في المتون.
قال ابن خلدون _ رحمه الله _: [اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً، يُلْقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله
¥