قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في نقض الاحتجاج بهذه الشبهة: (ثم إنهم يقولون: المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض في تأويل ذلك، والمصير إلى الإيمان بظاهره، والوقوف عن تفسيره، لأنا قد نهينا أن نقول في كتاب الله برأينا، ولم ينبهنا الله ورسوله على حقيقة معنى ذلك. فيقال: أما كون الرجل يسكت عما لا يعلم فهذا مما يؤمر به كل أحد. لكن هذا الكلام يقتضي أنهم لم يعلموا معنى الآية وتفسيرها وتأويلها. وإذا كان لم يتبين لهم فمضمونه عدم علمهم بذلك. وهو كلام شاك لا يعلم ما أريد بالآية).
وأخيراً فإن السلف – رحمهم الله – استعملوا هذا التعبير "السكوت" في غير باب الصفات، كقول أبي محمد الحسن بن علي البربهاري في باب القدر: (فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء واسكت عما سوى ذلك). فهو متضمن للأمر بإثبات معاني النصوص الصحيحة والسكوت عما خالف ذلك.
==============
خامساً: التفويض:
من الألفاظ التي تعلق بها المفوضة لإثبات دعواهم الباطلة في أن السلف يفوضون معاني نصوص الصفات ورود الكلمة ذاتها في كلام السلف؛ كقول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – في صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: ( ... وأرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله، وفوض أمره
إلى الله). ونحوها من النصوص.
فما هو التفويض الذي عناه السلف في هذه النصوص وغيرها؟ بتتبع هذه النصوص وأمثالها في سياقاتها المتنوعة وجدت أن "التفويض" في باب الصفات يعني به من أطلقه من السلف أحد أمرين:
أحدهما: تفويض عام، وهو تفويض كيفية صفات الباري – جل علا -، ورد علم كنهها وماهيتها إليه – سبحانه -، ولهذا اشتد نكيرهم على من سأل عن الكيفية أو حكاها نفياً أو إثباتًا.
ومن أشهر الأمثلة على استنكار السؤال عن الكيفية ما رواه اللالكائي وغيره، عن جعفر بن عبدالله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبدالله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء – يعني العرق – قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه. قال فسري عن مالك فقال: (الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج)
ومن إنكارهم على من حكى الكيفية إثباتاً، ما رواه اللالكائي عن يعقوب بن زاذان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل قرأ عليه رجل: (وماقدروا الله قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) قال: ثم أومأ بيده. فقال له أحمد: قطعها الله، قطعها الله، قطعها الله، ثم حرد وقام).
ومن إنكارهم على من تكلم في الكيفية نفياً ما ذكره الحافظ عبدالغني المقدسي – رحمه الله – في عقيدته فقال: (روينا عن عبدالله بن أحمد بن حنبل: قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمع قاصاً يقص في حديث النزول، فقال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله – عز وجل – إلى السماء الدنيا" بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، فارتعد أبي – رحمه الله – واصفر لونه، ولزم يدي فأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه قال: يا هذا: رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على ربه منك. قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانصرف)
فتفويض الكيفية هو التفويض الذي عناه الإمام أحمد والبربهاري والموفق وغيرهم. إذ أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما لا نعقل كيفية الذات لا نعقل كيفية الصفات.
الثاني: تفويض خاص في نصوص معينة اشتبهت اشتباهاً خاصاً على شخص معين، فالواجب عليه تفويض معنى ذلك النص إلى الله حتى يتبين له. فهذا النوع مقيد:
1 - بنص معين، وليس عاما في جملة من النصوص.
2 - بشخص معين، وليس حكماً عاماً على الأمة.
3 - بزمن معين، فمتى استبان له المعنى لزمه اعتقاده.
وعلى ذلك ينبغي أن يحمل قول الإمام الموفق بن قدامة – رحمه الله – في مقدمة لمعة الاعتقاد – بعد تقرير مذهب السلف في نصوص الصفات – حيث قال: (وما أشكل من ذلك: وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريقة الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتاب المبين بقوله – سبحانه وتعالى -: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا).). انتهى باختصار ووتهذيب من رسالة " مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، للدكتور أحمد القاضي، 358 - 391).