إن كل قراءاتي عن حياة ابن تيمية رحمه الله (3) لم تمنعني من افتراض وجود تقي الدين خارج القضبان عند الزيارة الثانية لابن بطوطة لمدينة دمشق, والشهادة معاصرة, لاسيما أن تتبعنا لحياة الملك الناصر كحاكم, كانت تحملنا على الاعتقاد بأنه كان يتبع مع تقي الدين سياسة (الساخن والبارد) - كما يقولون - مجاملة للمعارضين من جهة واحترامًا من جهة ثانية لأفكار العالم ابن تيمية.
وحتى أحتكم إلى القراء, أضع أمامهم في ختام هذا الحديث النص الكامل لما ورد في رحلة ابن بطوطة, مع حرصي على التنبيه مرة أخرى إلى الزيارة الثانية التي أدمجها الكاتب ابن جزي افتياتًا واعتسافًا في الزيارة الأولى, بل وعوّضها باختلاق رحلة أخرى في جنوب إيران, فسبب بذلك طائفة من المصاعب والمشاكل من كل حجم!!
( .... وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية (4) كبير الشأن, يتكلم في الفنون, إلا أن في عقله شيئا! وكان أهل دمشق يعظّمونه أشد التعظيم, ويعظهم على المنبر, وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء ورفعوه إلى الملك الناصر, فأمر بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر, وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي (5) , وقال: إن هذا الرجل قال: كذا, وعدّد ما أنكر على ابن تيمية, وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة, وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله, فأعاد عليه, فأجاب بمثل قوله, فأمر الملك الناصر بسجنه, فسجن أعواما, وصنّف في السجن كتابًا في تفسير القرآن سمّاه بـ (البحر المحيط) في نحو أربعين مجلدا ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه, فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية, وكنت إذ ذاك بدمشق (6) فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع, ويذكّرهم, فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا, ونزل درجة من درج المنبر, فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء, وأنكر ما تكلم به, فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامته وظهرت على رأسه شاشية حرير, فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلّم قاضي الحنابلة, فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك, فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره, ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز (7) وكان من خيار الأمراء وصلحائهم, فكتب إلى الملك الناصر بذلك, وكتب عقدًا شرعيًا على ابن تيمية بأمور منكرة منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة (8) , ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبا لا يقصر الصلاة, وسوى ذلك مما يشبهه, وبعث العقد إلى الملك الناصر, فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة فسجن بها حتى مات في السجن).
هذا ويلاحظ أن التعليق رقم 3 أحال على المقدمة في بقية نقد الكلام المتعلق بلقاء ابن بطوطة لابن تيمية, وتتميمًا للموضوع نسوق ما ورد في المقدمة. ص128 - 129 مع التعاليق, قلت في المقدمة عند الفقرة المعنونة بالدراسات النقدية. ويبقى هناك مع هذا بعض المؤاخذات التي تستوقفنا حقا:
- الأولى: قضية حضور ابن بطوطة لمجلس تقي الدين ابن تيمية وهو بدمشق بعد أن كان وصلها يوم الخميس 9 رمضان 726هـ =9 أغسطس 1326م, فقد أخبر أولاً عن سجن ابن تيمية وإطلاق سراحه, ثم أخبر أنه وقع منه مثل ما استوجب سجنه أولاً فسجن مرة ثانية وقال: إنه حضر يوم الجمعة وشاهد ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم, وإن من جملة كلامه: أن الله ينزل على سماء الدنيا كنزولي هذا, ونزل درجة من درج المنبر, فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء إلى آخر الحكاية, مع العلم أن ابن تيمية أودع في السجن منذ سادس شعبان, أي قبل وصول الرحالة إلى دمشق (9)!!
- فكيف يصح قول ابن بطوطة هذا مع تلك الفقرة التي نسبها لشيخ الإسلام في تفسيره لحديث النزول بما هو من قول المجسِمة المخالف لمذهب السلف الذي يعد ابن تيمية قطبًا من أقطابهم?
¥