تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[بئس هذا الناس ... بقلم الشيخ عبدالله الهدلق]

ـ[عبدالله العلي]ــــــــ[30 - 08 - 09, 02:47 م]ـ

بئس هذا الناس ...

بقلم / عبد الله بن عبد العزيز الهدلق

مجلة الإسلام اليوم – العدد 59 – رمضان – 1430هـ

"إنهم يَعرفون أنهم أكثر ممّا ينبغي، وأنه لا بد أن يفترس بعضهم بعضاً شأن العناكب في وعاءٍ واحد". تسفايج، بناة العالم.

هذه النفس الإنسانية غريبة النّوازع والبَدَوات والأطوار ..

ومن مفارقاتها أن قلمي لا يكون في أحسن حالاته إلاّ إذا ساءت نفسي ..

واليوم أصبحتُ منقبضَ الصَّدْر فانشرح قلمي، ولا أدري- وقد جاوزتُ طَوْر تكلّفِ الشجى لاستدرار الموهبة- ما بال قلمي لا يضيء إلاّ بنار روحي وَوَقْد ضميري؟

ألا بئس هذا الناس ..

ولولا دِينٌ وحياءٌ لقلتُ بقلمي هكذا فكشفتُ عن وجوه تُصدّر في المجالس، فلما عاملتها خشيتُ منها على نعلي!

قال سفيان الثوري لعطاء الخفاف: "يا عطاء: احذر الناس، وأنا فاحذرني".

غَبَر عليّ زمان كنت أقول فيه لمن أنصحهم: ربُّوا أبناءكم على الخير والطُّهر، واليوم صرت أُردّد مع القائل: "ستُقنع الغنم بالمذهب النباتيّ، لكنّ الذئاب لها رأي آخر".

ألا فلتربّوا أبناءكم على كثير من الشرّ، لا ليكونوا أشراراً، لكن حتى يتّقوا من الناس شرَّ الناس.

كنت أقول لمن أنصحه: أحسنْ إلى الناس قدر ما تستطيع، وأما اليوم فنصيحتي له: أنْ قلّل من إحسانك إلى الناس، فإذا أنت أحسنت إلى الواحد منهم فلا تشعره بذلك؛ لأنه سيجعل من إحسانك إليه ذريعةً للإساءة إليك. "قال رجل لآخر: فلان يسيء القول فيك، فقال له: عجيب، مع أني لم أحسن إليه".

كنت أقول لمن أمحضهم النصح: أحبّوا الناس، واليوم فلست أقول لهم: اكرهوا الناس بإطلاق، لكني أقول: أحبّوا الإنسانية مجتمعة، واكرهوهم أفراداً!

في "قصة الحضارة" لديورانت: "وأحزن البابا- أدريان السادس- وأقضّ مضجعه عجزُ الإنسان عن أن يصلح الناس، وكثيراً ما جهر بقوله: "ما أكثر ما تعتمد مقدرة الإنسان وكفايته على العصر الذي يقوم فيه بأعماله".

وفي "تساعيّة نقدية" لماهر فريد: "كتب رسكن ذات مرّة ما معناه:

في طريقي إلى المتحف البريطاني كلّ صباح؛ أجد وجوه الناس في الشارع تزداد فسادًا يومًا بعد يوم".

يوم أن انتابتني تلك الجائحة الرُّوحية المظلمة قبل إحدى وعشرين سنة، وانثالت عَليّ المصائب –أجارك الله- ترفّ تترى متتابعات حتى ذُهل قلبي المسكين فما عاد يدري لأيهنّ يتألم .. ويوم تنكّر لي من كنت أحسنتُ إليه من رُذال هذا الخلق وسَقَط ولد آدم –كتب أحدهم: كان من قَدَري أن أغلب من ألقاهم في دروب حياتي المعتمة هم من ذوي العاهات المخيفة –حبستُ نفسي في البيت عدة سنوات، وذهبت- فيما يشبه الجنون لكنه معرفيّ- أقرأ في اليوم والليلة أكثر من ثلاث عشرة ساعة، لا يصرفني عن القراءة إلاّ دموع عينيّ من فرط الجهد، لم أكن في تلك الأيام أتنفس من رئتيّ، كنت ألتقط أنفاسي من ثقوب الكلمات .. ولولا أن منّ الله عليّ بالهداية لربما تيبّستُ شيئًا فشيئًا حتى صرت- كما قال كافكا-: "حَجَرًا لقبر نفسي".

لا، لم أكن في تلك الأيام أُسحق؛ لكني كنتُ أتشكّل ..

استهواني –فيما استهواني- من هذه الدنيا الغريبة التي فتحها الله عليّ بعد أن أُوصدت دنيا الواقع في وجهي فنُّ التراجم الذاتية.

وما زلت أظن أنه لا يوجد فنٌّ آخر يعدله من فنون هذا التراث الإنساني كلّه.

نفضت المكتبات العامة والتجارية نفضًا، لم أترك فيها ترجمة ذاتية ذات شأن إلاّ طالعتها، وكنت أُعيد قراءة بعض التراجم أكثر من مرة، كالجزء الأول من "أيام" طه حسين قرأته ثلاث مرات- لم يُكتب في فن السيرة الذاتية باللغة العربية كهذا الجزء منذ كتب عربيٌّ عن نفسه- وكان طه حسين أملاه في عدة أيام.

وربما طالعت السيرة الذاتية في أكثر من ترجمة، كاعترافات جان جاك روسو، طالعتها في ترجمة بدر الدين وترجمة خليل رامز، في كثير كثير ..

كانت كتب التراجم الذاتية مسلاةً لروحي، أجدُ فيها العظة والعبرة والمتعة، وكنت أعثر فيها على لطائف من المعارف لا توجد في غيرها، بل لا يظن القارئ أنها من مظانّ هذه اللطائف:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير