ومن المعلوم أن فن المنطق منذ ترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا من له إلمام به، ولا يفهم الرد على المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل إلا من له إلمام بفن المنطق.
وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرا من صفات اللّه الثابتة في الكتاب والسنة، لأن أكبر سبب لإِفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.)).
قلت: هذا صحيح إلى حد ما، ويستغله في هذا القدر من أحكمه و أحكم نقده، و إلا وقع له ما وقع للمتكلمين أخذوا به للرد على الفلاسفة فانتهى بهم الأمر إلى القول ببعض قولهم، وقد كانوا نظارا بارعين، ومع ذلك لم يسلموا منه، لأن الإقرار بصحة مقدمة ـ لمن كان يعي ما يقول ـ تستلزم طردها، فإن لم يكن له منهج علمي يوازي المنطق في مستوى الإدراك العقلي تأثر به لا محالة، إلاّ أن يكون مقلدا لا يعلم مدلولات الأشياء على حقيقتها، فيجمع بين المتناقضات.
فلو أخذنا مثلا مسألة المجربات و المتواترات فإن المناطقة يرون أنها لا تصلح للاحتجاج بها على الغير لأنها غير يقينية، ولا تفيد العلم إلا عند أصحابها!
فهي ـ عندهم ـ مختصة بمن حصلت له، لا تصلح أن يحتج بها على الغير، وهذا غير صحيح، لأن الحسيات يحصل فيها الاختصاص و الاشتراك، ذلك أن الاشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرك، وقد يكون في نوعه، فالناس تشترك في رؤية الشمس و القمر، وهذا اشتراك في عين المعلوم المدرك.
وتشترك في معرفة الجوع و العطش و اللذة و الألم، وهذا اشتراك في نوعه. فالمعنى الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعيّن الذي ذاقه الآخر، إذ كل إنسان يذوق ما أحس به، و لكن الناس يشتركون في معرفة جنس ذلك.
كما يشترك أهل مدينة في سماع الرعد أو رؤية البرق، ولكن هذا الرعد و البرق في هذه المدينة أو هذا الشهر هو غير الرعد و البرق في المدينة الأخرى أو الشهر الآخر، فلاشتراك يكون من جهة في عين المدرك، ومن جهة أخرى في نوعه.
فكثير من المحسوسات المعروفة بالرؤية تكون في بلد، ولا تكون في بلد آخر فتكون لمن رآها مرئية مشهورة، و يعلمها من لا يراها بالخبر، و ذلك الخبر قد يكون المشتركون فيه أكثر من المشتركين في الرؤية.
فعدم العلم ليس علما بالعدم، و عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، فإذا لم يعلم المناطقة بذلك لم يكن هذا علما منهم بعدمها أو عدم علم غيرهم بها، فلا يوجد دليل عقلي ينفي هذه المتواترات، غاية ما عندهم أنه لا يوجد في صناعة المنطق ما يدل على وجود المتواترات،لأن أرسطو لم يكن عنده علم بالوحي و بأخبار الأنبياء المنقولة بالكيفية التي نقلت بها عند المسلمين، ولكن الذين اتبعوه من المسلمين قلدوه من غير بصيرة.
فتبيّن أن القضايا الحسية والمتواترة والمجربة قد تكون مشتركة، وقد تكون مختصة، فلا معنى للفرق بأن هذه يحتج بها على المنازع دون هذه.
يقول ابن تيمية: ((ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الإلحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها يقول أحد هؤلاء ـ بناء على هذا الفرق ـ:هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على، فيقال له: اسمع كما سمع غيرك، وحينئذ يحصل لك العلم.
وإنما هذا كقول من يقول: رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس، وأنا لم أره فيقال له: أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين.
وكمن يقول العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر، وأنا لا أنظر، أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر.
ومن جواب هؤلاء: ((أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم، فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها))
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم، وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء، وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة.
فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
¥