{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فنقل هذا الدليل إليك، وتوصيل هذه الآيات إلى سمعك هو دليل سمعي نقلي، لكن الآيات تحمل جوابا عقليا، وهو أنكم لم تخلقوا هذا الخلق (مقدمة يقينية صادقة) تستلزم ضرورة أن له خالقا (مقدمة ثانية يقينية صادقة) و النتيجة: فالذي خلقه أول مرة قادر على إعادته مرة أخرى، وهذا برهان عقلي يقيني.
وعليه، نؤكد لكم مرة أخرى أن الإشكال في الدليل العقلي اليقيني ليس في صورته و نظمه ولكن في مواده، و الأدلة القرآنية و إن كانت صورتها أو طريقة تلقيها سمعية خبرية فإن موادها يقينية بحسب إدراك المخاطب بها.
و لذلك تنوع خطاب القرآن في أدلته بحسب المخاطبين، وما يحدث لهم العلم اليقيني.
و المناطقة يجعلون النبوة من باب الخطابة، وتارة يجعلون الخطابة أحد أنواع كلامها فيتناقضون، وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره، ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة، وظنوا أنه مثل كلام كفار اليهود و النصارى.
المقصود بهذا التحليل ــ للتفريق بين مادة الدليل و صورته، وبين يقينية النتيجة بالنسبة للنظم و إن كانت كاذبة في موادها، و يقينية القرآن و صدق نتائجه لصدق مواده، و إن كان أصله السمع، ــ هو أن تفهم أن اختلاف أشكال الدليل هو أمر نسبي إضافي يعرض للقضية:
فالفروق و الفواصل التي جعلها المناطقة لأنواع الأقيسة هي فروق وفواصل شكلية، لا تتعلق بمادة القياس، فكون القضية برهانية معناه عندهم أنها معلومة للمستدل بها، لا يعني أنها معلومة لغيره من الناس
وكونها جدلية معناه كونها مسلمة، وكونها خطابية معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة.
وكما يقول ابن تيمية: وجميع هذه الفروق و الفواصل هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم.
فهذه صفات نسبية باعتبار شعور الإنسان بها.
ومعلوم أن القضية قد تكون حقا، والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها ـ كبعض البديهيات عند هذا مشكوك فيها عند الآخر ـ
وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهى حق في نفسها، بل قد تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك.
وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبا باطلا قط، وبيّنوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس.
وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر!. ـ كما مثلنا بقضية المتواترات، وبعلم المحدثين, والجدليات ما سلمه المنازع، وإن لم يسلمه غيره.
وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى!
وعليه، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها، ومن لم يعلمها، حتى أن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم.
ومن هنا يظهر استغناء جميع العلوم بنفسها عن علم المنطق الذي لا يكفي نفسه بنفسه.
وحينئذ فيمتنع أن يكون علم المنطق طريقة مميزة للحق من الباطل، والصدق من الكذب، باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه.
ويمتنع أن تكون منفعته مشتركة بين الآدميين ـ وفي هذا رد قوي على دعوى الشيخ الشنقيطي احتياج الشريعة إليه في تبريرها أو الجدال عنها ـ.
بخلاف طريقة الأنبياء فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل.
فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل أيضا الميزان، وهو ما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل، ولكل حق ميزان يوزن به.
بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون، فانه لا يمكن أن يكون هاديا للحق، ولا مفرقا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل.
¥