فعلوم الطبيعة ـ مثلا ـ تجرد موضوعاتها من جميع الصفات الفردية، و الرياضيات تجرد موضوعاتها من جميع الصفات عدا صفة الكم.
و ما بعد الطبيعة أو علم الوجود المعمول المنطق كله لخدمته يجرد موضوعاته من جميع الصفات بما فيها صفة الكم ما عدا صفة الوجود الكيفي.
فالمنطق لا يهتم إلا بصفة الوجود بقطع النظر عن الصور الجزئية التي يتجلى فيها الشيء، ولذلك يسمى علم الوجود بالميتافيزياء العامة.
وحتى الصدق في المنطق هو قول أن ما هو موجود موجود، و أن ما ليس موجودا ليس موجودا، فهذه خاصية الحكم، لأن التصور ليس صادقا ولا كاذبا، ولكن المقصود بأحقية الوجود ماهية الشيء الذهنية، لا حقيقته في الوقوع، لذلك ينصّب التعريف المنطقي عليه، وهذه سفسطة لأن الوجود في الأعيان و ليس في الأذهان.
فالتعريف في نظر المناطقة هو طلب الماهية، إنه هدف علم التصور، والتصور و التعريف فكرتان متماثلتان،،إنهما ماهية الشيء في الذهن و ليس في الخارج، ومعلوم أن تعريف المتصور في الذهن ليست تعريفا للموجود في خارج الذهن، الفرق بينهما الوجود الثبوتي الحقيقي.
ولذلك لا يمكننا أن نعتبر التحديد المنطقي تعريفا للشيء الحقيقي، بل هو صورة ذهنية له، لا وجود لها في عالم الحقيقة، و لا تعبر عن الحقيقي الواقعي، ولذلك لا يمكننا أن نستمد منها معرفة مطابقة للشيء المراد التعرف عليه.
فإذا زعم المناطقة أن التعريف هو القول المبيّن لطبيعة الشيء أو لمعنى الحد، و التعريف هو التصور، ووظيفته إحلال تصور واضح محل تصور غامض، فمقصودهم إحلال تصور الكلي محل تصور الفردي، ولذلك كان الفرد عندهم غير قابل للتعريف، بل لا يقبل إلا الرسم الذي يكون بالجنس و الفصل، والرسم يلجأ إلى العناصر الحسية، و التعريف إلى الخصائص المعقولة، ومعلوم أن الخصائص الحسية معقولة، و المعقولة من الحس أخذت بالاستقراء، وهذا وجه تفريقهم الباطل بين حكم العقل وحكم الوهم.
فهم هنا ـ في تفريقهم بين الكلي و الفردي ـ فرضوا مانعا عقليا ليس برهانا يقنيا وضعوا له قانونا مصادرة على المطلوب ثم طالبونا بالتسليم له تقليدا لهم.
ومن هنا يتبيّن أن التعريف الحقيقي و العلمي الصحيح هو معرفة جملة خصائص الفرد، و أن التفريق بين الذاتي و العرضي في التعريف مجرد خيال ووهم، لأن الإنسان المعين فلان ابن فلان لا يمكن تعريفه بغير صفاته العرضية، وتجريده منها هوتعريف لإنسان آخر لا وجود له إلا في أذهانهم.
إن التعريف المنطقي الصوري يقوم أساسا على مبدأ الهوية " الهو هو " وهو مبدأ تكراري، فكل معنى مكافئ لذاته بسيطا كان أو مركبا أي الوحدة في الذات بإزاء التعدد في الإشارة إلى هذه الذات وبإزاء تعدد أحوالها.
وكما يقول هيجل:الفكر في المنطق الصوري متقيد بمبدأ الهوية، و بالتالي محكوم عليه بأن لا يحرز أي تقدم حقيقي، و في هذا الصدد يكون تكرارا واسعا لأنه يجب كسر دائرة الهوهو، و على الفكر أن يتجاوز نفسه ليصبح خصبا.
فكيف يكون الشيء واحدا و متعددا في آن واحد؟! نعم الماهية العامة موجودة لكن في الذهن المتصور المتجرد لا في الواقع، في الواقع لا يوجد إلا واحد.
إن الوجود عند عقلاء البشر هو استمرار الكون في الأعيان، وهو يقابل الماهية التي هي كون في الأذهان، كما يقابل العدم الذي هو انتفاء.
ووجود الإنسان في الخارج هو عين كونه حيوانا ناطقا، وليس معنى ذلك أن الوجود عرض يحل بماهيته، فالماهية يمكن تصورها مع الذهول عن الوجود، لكنه لا يمكن تصور الوجود مع الذهول عن الماهية.
ومن هنا يقول المحققون بأصالة الوجود، بخلاف المناطقة الذي يقولون بالماهية، أي سبق الماهية للوجود.
إن المنطق والميتافيزيقا شيء واحد كما يقول ذلك الرواقيون، فهو لا يدرس الإدراكات الحسية كما تفعل الهندسة في تمثلات مجردة مستمدة من الحواس، وإنما هو يبحث في تجريدات خالصة.
ولما لم يجدوا في الوجود الحسي شيئا لا يكون متصفا بمجموع صفات حتى البسيطة منها لها شكل ولون أو رائحة أو غير ذلك اخترعوا لنا البسيط الحقيقي وهو ما ليس له أجزاء مختلفة لا بالكيف ولا بالكم، و لما طالبناهم بمثال عليه قالوا لنا: هو الله؟
فهل رأوا الله تعالى أو أخبرهم في كتبه و على لسان أنبيائه بأنه بسيط لا يتصف بأية صفة ثبوتية؟!
¥