و أما أبو بكر فإنه ما كان للنبي عليه السلام في حقه نعمة تجزى، بل كان له في حقه نعمة الإرشاد إلى الدين، إلاّ أن هذه النعمة لا تجزى بدليل: أنه تعالى حكى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا يقولون لأممهم: ? و ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين? (الشعراء: الآية 109) و لم يقل تعالى: و ما لأحد عنده من نعمة، بل قال: " وما لأحد عنده من نعمة تجزى" فبهذا القيد خرج علي رضي الله عنه عن أن يكون مرادا بهذه الآية. فبقي أن يكون المراد بهذه الآية هو أبو بكر.
إذا ثبت هذا، فنقول: دلت الآية أيضا على أنه أفضل الخلق. فإنه تعالى لما وصفه بأنه أتقى، و الأتقى أفضل، وجب أن يكون هو أفضل الخلق. و دلت الآية أيضا على أنه تعالى راض عنه في الحال و الاستقبال، لأنه قال: " ولسوف يرضى" و كلمة "سوف" مختصة بالاستقبال. هذا يدفع سؤال من قال: لعله تعالى كان راضيا عنه في تلك الحالة، لما كان مرضيا، ثم زال الرضاء عنه وقت اشتغاله بالخلافة لأنه تعالى بين بقوله: " و لسوف يرضى" بقاء ذلك الرضوان في المستقبل
فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه لو كانت خلافته باطلة، لما كان مرضيا عند الله في الحال و الاستقبال، و ثبت أنه مرضي عند الله في الحال و الاستقبال، فوجب القطع بصحة خلافته.
الحجة الرابعة: قال بعضهم: رأينا الصحابة كانوا يقولون له: خليفة رسول الله. و علي بن أبي طالب كان يخاطبه بهذا الخطاب و الخصم يساعد عليه، إلاّ أنه يحمله على التقية. ثم رأينا أن الله تعالى وصف الصحابة بالصدق. فقال: ? للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم? (الحشر: الآية 8) إلى قوله تعالى: ? أولئك هم الصّادقون? (الحشر: الآية 8) و لما ثبت أنهم خاطبوه بخليفة رسول الله و أخبر الله عن كونهم صادقين، لزم الحكم بأنه كان خليفة رسول الله حقا. و هذا الوجه قريب.
الحجة الخامسة: لو كانت الخلافة حقا لعلي، لكان إما أن يقال: الأمة أعانوه على طلب هذا الحق أو ما أعانوه.
فإن كان الأول وجب عليه أن يطلبه، لأنه إذا لم يطلبه مع القدرة على الطلب، كان ذلك التقصير لا محالة عليه.
و إن قلنا: إنهم ما أعانوه بل خذلوه، لزم أن يقال: إن هذه الأمة كانت شر الأمم، لكنه تعالى وصف هذه الأمة بأنها خير الأمم. قال لتعالى: ? كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر? (آل عمران: الآية 110): فوصفهم بكونهم آمرين بكل معروف، ناهين عن كل منكر. فلو أنهم خذلوا عليا و ما أعانوه على طلب حقه، لكانوا شر أمة أخرجت للناس، و لما كانوا آمرين بالمعروف، و لا ناهين عن المنكر. وكل ذلك باطل.
الحجة السادسة: التمسك بقوله عليه السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر» و قوله: «اقتدوا» صيغة الأمر. وهي إما للوجوب أو للندب. و على التقديرين فإنه يدل على جواز الاقتداء بهما في الأحكام. و لو كانا على الخطأ و الضلال، لما جاز ذلك.
و الشيعة طعنوا فيه من وجوه:
أحدها: إنه خبر واحد، فلا يكون حجة.
و ثانيها: إن هذا لو صح، لكان نصا في ثبوت إمامته، فكان يجب عليه يوم السقيفة أن لا يوقف امامته على البيعة.
و ثالثها: لعله عليه السلام قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبا بكر و عمر. فأمر أبا بكر و عمر بالاقتداء باللذين يبقيان بعده. وهو كتاب الله عزّ وجلّ و عترته. كما ذكره في خبر آخر.
و الجواب عن الأول: إن أمر هؤلاء الشيعة عجيب. فإنهم إذا وجدوا خبرا يقوي مذهبهم، كخبر المولى و خبر المنزلة، زعموا: أنه متواتر و إذا وجدوا خبرا يقوي قولنا، زعموا: أنه خبر واحد. و ليس بصحيح. و هذا يجري مجرى التحكم.
لا يقال: الأخبار الواردة في حق «علي» أقوى. لأن بني أمية مع قوة سلطنتهم، بالغوا في إخفاء مناقب «علي» - رضي الله عنه- و لولا قوتها و إلاّ لما بقيت مع هذا المبطل القوي.
لأنا نقول: هذا معارض بما روي: أن الروافض كانوا في جميع الأعصار مبالغين في إلقاء الشبهات في فضائل أبي بكر، و لولا قوتها، و إلاّ لما بقيت، بل الترجيح من هذا الجانب. لأن الإنسان حريص على ما منع منه. فملوك بني أمية لما كان اجتهادهم في إخفاء مناقب «علي» أكثر، كانت الدواعي أشد توفرا على نقلها.
¥