ولاحظ أن ابن تيمية في القضية المذكورة أعلاه، تكلم على الموجود، فبدأ كلامه بقوله "الموجودات نوعان" فجعل عنوان كلامه هو أصل الموجود، ومعلوم أن هذا الاسم يدخل فيه كل موجود، ولا يخرج عنه واحد، سواء كان ذلك الموجود واجب الوجود أو ممكن الوجود. ولذلك فقد قال ابن تيمية بعد ذلك:"فالرب إن لم يقبل .. الخ" فهو يفهم أن كلامه عام لاستعماله كلمة الموجود، التي يدخل في مفهومها اللهُ تعالى، وهو واجب الوجود، وغيره من الموجودات الممكنة.
ثم قال ابن تيمية: "الوجه الثالث: أن يقال: نفي سلب هذه الصفات نقص، وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حيا عليما قديرا متكلما سميعا بصيرا أكمل ممن لا يكون كذلك. وأن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد، وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال، ومجرد سلبها من النقص وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كمال ممكن للوجود، ولا نقص فيه بحال، بل النقص في عدمه."اهـ
هذا تطبيق من ابن تيمية للقاعدة السابقة على بعض الصفات التي يمكن أن نوافقه على مجمل ما قاله فيها، وإن كنا نخالفه في تفصيلات مراده بالسمع والبصر والعلم والكلام وغير ذلك من الصفات، فإنه يفسر هذه الأسماء بمعاني لا نوافقه على جواز نسبتها إلى الله تعالى. وليس هذا المحل ملائما للكلام على ذلك، فقد وضحناه في كتابنا "الكاشف الصغير"، والآن لنكمل كلام ابن تيمية، فقد قال:
"وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات أحدهما يقدر على التصرف بذاته فيأتي ويجيء وينزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به، والآخر يمتنع ذلك منه، فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال، كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه."اهـ
إذن فابن تيمية يُفَرِّعُ الآن وبعد تقرير القاعدة كما سبق أننا إذا قدرنا في أذهاننا موصوفين بهذه الصفات وهي العلم والقدرة…الخ، أحدهما يقدر على الصعود والنزول وعلىالتصرف بنفسه وغير ذلك من أنواع الأفعال القائمة به، والآخر لا يقدر على ذلك. فإننا نحكم بأن القادر على ذلك أكمل من غير القادر على ذلك. يريد من ذلك أن يقول النتيجة الحتمية وهي أن الله تعالى يتصف بهذه الصفات (وهي المجيء والإتيان والصعود والنزول ونحو ذلك) كما صرح به في مواضع أخر، وذلك لأن كون الله تعالى كاملا ليس ناقصا أمرٌ واجب، وبما أن هذه الصفات والأفعال كمال، إذن فهي واجبة لله تعالى!
هذه هي طريقة ابن تيمية في الاستدلال على ما يريد. فالوصف العنواني عنده في هذه القضية هو "الموصوف" أي بما مضى من الصفات. ومعنى ذلك، أن الاتصاف بالمجيء والصعود والنزول، لازم لكل من اتصف بالصفات المذكورة، وبما أنه كمال إذن هو واجب لله تعالى. ومعنى ذلك أن السبب في الاتصاف بالمجيء والنزول والصعود والتصرف بالنفس وغير ذلك، على حد تعبير ابن تيمية هو كون الواحد موصوفا بالقدرة والعلم والسمع والبصر .. الخ.
هذا هو تحليل لعبارة ابن تيمية بناءا على القواعد المنطقية، وبعبارة غير فنية تماما ميلا إلى التسهيل.
ولكن هل ما قاله ابن تيمية هنا صحيح، أي هل ما ادعاه من تلازم بين الاتصاف بالمجيء والصعود والنزول وغير ذلك، وبين كون الواحد موصوفا بالعلم والقدرة والسمع …الخ، صحيح؟!
لو دققنا في النظر لأدركنا أنه لا توجد علاقة مطلقا بين هذين الأمرين. فإن الصعود معناه الانتقال من محل ومكان سافل إلى محل ومكان عالٍ. والمجيء هو الانتقال من محل بعيد منك إلى محل قريب منك، والنزول هو الانتقال من محل عالٍ إلى محل ومكان سافل، وهكذا التصرف بالنفس، فمعناه جواز حدوث أمر حادث وزائد على ما هو حاصل بالفعل في الذات. هذه هي معاني الصفات الثانية اللازمة عن الصفات الأولى.
فالسؤال هنا بعد هذا التوضيح، هو هل الصفات الثانية مترتبة فعلا على الصفات الأولى؟ أي هل يلزم كل كامل اتصف بالصفات الأولى أن يتصف بالصفات الثانية؟
ابن تيمية يقول: نعم. ونحن نقول: لا.
وإذا دقق القارئ معنا نظره، لعرف ما يلي: إن الحركة لازمة لا للمتصف بالصفات الأولى فقط. بل للمتصف بالمحدودية والمكان. أي إن الأصل أن يقال كما يلي:
¥