تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن كل من اتصف بالمحدودية، أي بكونه محدودا، أي له نهايات وأطراف وحدود من جميع جوانبه وجهاته، يلزم جواز اتصافه بالصفات الثانية وهي الانتقال والمجيء والصعود والنزول. ولا يقال إن كل من كان سميعا قديرا عليما جاز اتصافه بالانتقال والمجيء والصعود والنزول. فالفرق كبير وواضح بين العبارتين. والعاقل المنصف يعلم أن سبب جواز الاتصاف بالصفات الثانية ليس هو الاتصاف بالصفات الأولى، بل هو الاتصاف بصفات ليست هي الثانية ولا الأولى، بل هي أمور أخرى، وهي كون الذات محدودة، فكون الذات محدودة فعلا هو السبب الحقيقي في جواز اتصاف الذات بالنزول والانتقال والمجيء والصعود. وهذه الصفات (ولنسمها بالصفات الثالثة، أو الصفات المتوسطة) هي علة الاتصاف بالصفات الثانية بالفعل.

هذا هو التحليل الصحيح لعبارة ابن تيمية، وهكذا يجب أن يكون الاستنتاج الطبيعي لا كما ذكره ابن تيمية.

فالواقع أن ابن تيمية قد أسقط السبب الحقيقي في الاتصاف بالصفات الثانية، وأوهم القارئ أن السبب الكافي للاتصاف بها إنما هو الاتصاف بالصفات الأولى، وليس الأمر كذلك. كما أوضحناه لك. فلا مدخلية لكون الذات موصوفة بالقدرة في كونها موصوفة بالانتقال والصعود والنزول. ولكن السبب الحقيقي لاتصافها بالنزول والصعود، هو اتصافها بالقدرة أولا، واتصافها بكونها محدودة ثانيا، أما مجرد الاتصاف بالقدرة والعلم والسمع والبصر، فلا مدخلية له في ذلك.

وهذه المقدمة المحذوفة من كلام ابن تيمية، هي في الحقيقة أصل النزاع بينه وبين معارضيه، ولذلك فقد أخفاها هنا في كلامه، وأوهم القراء أن لزوم الاتصاف بالصفات الثانية يكفي فيه الاتصاف بالصفات الأولى، وذلك لأن الصفات الأولى قد يقول بها المعارض، بل إن كثيرا من معارضي ابن تيمية يقولون باتصاف الله تعالى بها، وأما الصفات الثانية، فلا يقول بها إلا المجسمة الذين يسميهم ابن تيمية بأهل الإثبات. وهذا هو السبب الحقيقي في إهمال ابن تيمية ذكر العلة الحقيقية في الاتصاف بالصفات الثانية. فتأمل، وهذا هو بعض ما يطلق عليه أهل المنطق اسم المغالطة، وكثيرا ما يستعملها ابن تيمية في مناقشاته للخصوم.

وهذا الذي يفعله ابن تيمية من إهمال قيد في القضية، يعبر عنه أهل المنطق بإهمال توجيه القضية. وهو لا يجوز في البراهين. بل يستعمله الناس في السفسطة والمغالطات والجدليات، مما لا ينفع في الوصول إلى الحقيقة، وهي المقصودة أصالة في مجال البحث في العقائد. فتأمل.

وأما اتصاف الذات بكونها متصرفة في نفسها، فهذا ينبني كما أشرنا لك على كون الذات ممكنة قابلة للانفعال والتأثر، ولا ينبني على مجرد كون الذات قادرة عالمة سميعة بصيرة الخ. وهذه مغالطة أخرى في كلام ابن تيمية السابق. وتتم محاكمتها بنفس الأسلوب السابق. فتنبه.

النص الثاني: ونورد هذا النص هنا أيضا لأن له مدخلية ببيان حقيقة كلام ابن تيمية السابق، كما وضحناه أعلاه، فقد قال في الرد على أساس التقديس، في معرض الرد على الإمام الرازي:

"ويقول له الخصم: هب أنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون، فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون، فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا، فإن كان منتقلا فهو متحرك، وإلا فهو ساكن. والحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها، فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا، كانت الأولى أكمل."اهـ

لاحظ أن ابن تيمية هنا قد أوضح في كلامه، بأن السبب الحقيقي لكون الذات متصفة بالتحرك والانتقال إنما هو كونها متحيزة، لا كونها قادرة عالمة الخ، كما أوهم في النص السابق. فقد قال هنا:" هب أنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون"اهـ، فعلق الحركة على كونه متحيزا لا على كونه عالما .. الخ.

ثم تأمل في قوله أيضا:"فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون"اهـ، فهو علق هنا كون الشيء متحركا أو ساكنا، على كونه قائما بنفسه، ومعلوم أنه ليس كل قائم بنفسه فهو متحيز، بل هذا هو أصل النزاع أصلا، وهو كل قائم بنفسه فهو متحيز؟ ابن تيمية يقول نعم، ونحن نقول لا. وبالتالي فابن تيمية يقول ما دام الله تعالى قائما بنفسه فهو متحيز، أي محدود، ونحن نقول الله تعالى قائم بنفسه وليس بمحدود.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير