وعلى قول ابن تيمية فإذا كان الله تعالى قائما بنفسه، فيلزم كونه محدودا، ويلزم على كونه محدودا أن يكون قابلا للاتصاف بالحركة والسكون، وحينذاك، فإما أن يتحرك بإرادته أو يتحرك لا بإرادته، أي يكون مضطرا في حركته، ومعلوم أن المتحرك بإرادته أكمل من المتحرك باضطرار. هذا هو الأسلوب الصحيح في التعبير عن مذهب وقول ابن تيمية، لا كما صوره هو!
ونحن نقول مع ابن تيمية: لو فرضنا أن الله تعالى محدود فعلا، لكان يلزم أن يكون قابلا للاتصاف بالحركة والسكون. ولكن لأن الله تعالى في الحقيقة ليس محدودا، فإنه يستحيل اتصافه لا بالحركة ولا بالسكون.
وتأمل قوله بعد ذلك:" والحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها"اهـ، فإنك تراه قد علق كون الحركة الاختيارية كمالا على مجرد كون الأمر شيئا، أي موجودا، وليس الأمر كذلك، بل الحركة الاختيارية تكون كمالا، لا لذلك فقط بل لكون الأمر موجودا، وكونه جسما، أي متحيزا، وفرق كبير بين كون الشيء جسما وبين كونه موجودا. فالصحيح أن تكون عبارة ابن تيمية السابقة كما يلي:
"والحركة الاختيارية للجسم كمال له كالحياة"اهـ لا كما قال. وأنت صرتَ الآن تعرف الفرق الكبير بين العبارتين. فإنك لا يمكن أن تقول بعبارة ابن تيمية إلا إذا كنت مجسما، أي إلا إذا كنت تعتقد أن كل شيء موجود فهو جسم، أي لا يمكن أن يكون الأمر موجودا وشيئا إلا إذا كان جسما، وعلى ذلك فهو يقول بأن الله تعالى جسم بالمعنى المنفي عند المتكلمين وسائر أهل السنة. فالوجود عنده مقيد بالأجسام. وأما إذا كنت تعتقد أنه يمكن أن يوجد موجود ليس بجسم، فإنك تعرف أن عبارته تلك خاطئة، وأن التعبير الصحيح عند ذاك، إنما هو ما اقترحناه عليك.
ثم تأمل بهد ذلك في قوله في نهاية كلامه:" فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا، كانت الأولى أكمل"اهـ، فأنت تعرف الآن أن التعبير الذي كان يجب أن يقوله ابن تيمية هو كالتالي:
"فإذا قدرنا جسمين أحدهما يتحرك باختياره، والثاني لا يتحرك أصلا، كان الأوَّلُ أكملَ."اهـ
هذه العبارة صحيحة، منطقيا، وصادقة واقعيا، وعقليا، وأما عبارة ابن تيمية فهي باطلة بالوجوه الثلاثة المذكورة. وذلك لإمكان وجود موجود ليس بجسم، ولذلك لا يقبل الحركة ولكنه في غاية الكمال وهو الله تعالى واجب الوجود.
مناقشة المخالفين لعلم المنطق
مما مضى نتبين مدى علاقة علم المنطق بغيره من العلوم خاصة علم الكلام وعلم الأصول، ومنه أيضا علم الفقه، وقد احتجنا إلى بيان تلك العلاقة، لأمرين
الأول: إثبات ذلك المعنى في نفسه.
الثاني: بيان غلط من توهم عدم وجود علاقة بين المنطق والعلوم الشرعية المذكورة، وغيرها.
وكما تبنى بعض العلماء مهمة إثبات العلاقة المذكورة، فإن بعضا من العلماء كتبوا في سبيل بيان عدم الحاجة إلى علم المنطق في أي علم من العلوم الشرعية، وبرروا هدفهم ذلك، إما بالاستغناء عن المنطق بمجرد الفطرة، أو بغلط مباحث علم المنطق في نفس الأمر.
ولو استعرضنا أسماء المؤيدين لعلم المنطق من حيث العدد والكيف أي درجة العلم والتمكن في سائر العلوم والمعارف، بأسماء المعارضين له بغض النظر عن أسبابهم التي دفعتهم إلى اتخاذ ذلك الموقف، لرأينا رجحان كفة المؤيدين للمنطق والقول بالحاجة إليه، وفائدته على الفريق الآخر، ولرأينا الفرق المعارض تتأرجح به العلل التي دفعت به إلى المعارضة ما بين باحث منصف له نظرات تتأمل المسألة في نفس الأمر، فإما أن يكون ما قاله مصيبا أو غلطا، وهذا لا بأس به ولا يبعثنا إلى مخالفته إلا ما يقوله مما يظهر لنا بطلانه، ومن يمثل هذا القسم قليلون.
وطائفة دفعها عدم علمها بحقيقة المنطق إلى معارضته ككثير من العلماء الذين كانوا متخصصين أصلا إما في الحديث أو في اللغة، أو حتى في مجرد الفقه والإفتاء، ولا تحقيق لهم في العلوم العقلية ومنها علم المنطق، فبعض هؤلاء دفعهم عدم علمهم واختلاط عدة أمور عندهم ككون أصل المنطق مأخوذا من الفلاسفة، واختلاط كتب المنطق أو أكثرها بالأمثله المخالفة للشريعة، أو اعتمادهم على كلمات من السلف الصالح من العلماء حملها هؤلاء على مطلق علم المنطق ولم يفرقوا بين أمر وأمر، وغير ذلك من الأسباب.
¥