وطائفة ثالثة ممن خالفوا أصلا أصول الحق في علم التوحيد، كالمجسمة والتجريبيين النافين لوجود الله تعالى، وكالماديين بمختلف أصنافهم ومنهم الماديون الجدليون، هؤلاء دفعهم إلى محاولة نقض المنطق كونه بما يحتوي عليه من قواعد كلية، تقوم عليه أصول التوحيد الصحيحة التي يخالفها جميع هؤلاء، أي إن هذه الطائفة لما رأت المنطق هو السلاح الذي يعتمد عليه أهل الحق القائلون بالعقائد الصحيحة، حاولوا نفي ونقض هذه الآلة الفكرية بمختلف الأساليب والطرق، لنزع أهم سلاح من بين أيدي القائلين بالعقائد الصحيحة.
ولما كان ابن تيمية من بين أهم الأسماء اللامعة في هذا الزمان، وقد شاع فكره الخاص بين كثير من العامة والخاصة، حتى رأينا بعض العلمانيين يستندون إلى أفكاره، ورأينا كذلك بعض المخالفين لأصول الإسلام يستندون إلى ما قاله لتبرير كلامهم وتمريره بين الناس. فصار الاحتجاج بكلام ابن تيمية في هذا العصر يشابه –عندهم- الاحتجاج بالكتاب والسنة، وكلما زاد الكاتب من الاستشهاد بعبارات ابن تيمية ومقاطع من كلامه، ازداد حظه من هذه الحياة الدنيا المادية، وقرَّب بهذا الأسلوب ارتفاعَ اسمه بين أقرانه. فالعلاقة حالياً أوشكت أن تكون طردية كليا بين موافقة ابن تيمية والدعوة إلى آرائه وبين ازدياد الكسب المادي.
ولكننا لا نلتفت إلى مثل هذه العوارض الزائلة، التي لا تدل على حقائق الأمور، ولا تستهوي إلا نوعا معينا من الناس، فمهما كان الاسم كبيرا وصاحبا معظما فإننا لا نرى هذا مانعا من الإشارة بوضوح إلى مخالفته للحق في نفس الأمر، بمختلف الأدلة والإشارات. ولا يثنينا عن هذا الطريق ما قد نواجهه من عَنَتٍ.
ولذلك، ولكون ابن تيمية من أشهر من كتب في الرد على المنطق، فله في ذلك الكتابات المختصرة والمطولة، فإننا أحببنا أن نركز زيادة تركيز على نقض أهم الأدلة والاحتجاجات التي اعتمد عليها في الرد على المنطق. ولن نقتصر على ما قاله ابن تيمية، بل سنضيف إليه كلام بعض الآخرين الذين اشتركوا مع ابن تيمية في محاولته نقض المنطق، وإن اختلفوا معه في أهدافهم ودوافعهم إلى ذلك، بحسب ما أشرنا إليه سابقا.
وسوف نخصص الكلام هنا على ذكر الجهات التي ناقض فيها ابن تيمية وغيره علمَ المنطق، ونذكر الرد عليها بشكل مجمل وذلك لأن للتفصيل محلا آخر.
ونذكر أيضا الأسباب الحقيقية التي دفعت ابن تيمية إلى الرد على علم المنطق، مستأنسين في ذلك كله بأدلة كافيةٍ للمنصف.
ولهذا فسوف نخصص فصلا خاصا لمناقشة ابن تيمية، ونتبعه بفصول أخرى لمناقشة بعض من تكلم في هذا الأمر من العلماء المتقدمين.
وبعد أن ننتهي من معارضة ابن تيمية وبيان ضعف أدلته، وتقريراته، سوف نتوجه إلى مناقشة بعض العلماء الآخرين الذين اشتهر عنهم معارضة المنطق، ورفضه، لنتعرف إلى أدلتهم ونزنَ أقوالهم بالموازين الصحيحة، ومنهم الإمام السيوطي، فسوف نناقشه في كتابه "صون المنطق"، ومن ثَمَّ فسوف نتناول بالنقد أهم الآراء التي نقلها عن المتقدمين من العلماء، ونبين ما فيها من وجهة نظرنا، وهذا الفصل يؤلف قسما مهما من كتابنا. وأخيرا نختم الكتاب بفصل خاص نورد فيه بعض أهم الفتاوى التي تكلم فيها العلماء المتقدمون عن علم المنطق، ونبين ما فيها من مقبول ومردود.
الفصل الأول
موقف ابن تيمية الإجمالي من علم المنطق
نستطيع أن نلخص موقف ابن تيمية من علم المنطق بإيراد النص التالي من كلامه، فقد قال:
"أما كتب المنطق فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية، وقال بعض الناس إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد، فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا.
أما عقلا فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني، وأما شرعا فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.
¥