وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء وكانت سببا لنفاقهم وفساد علومهم. وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بينَّاه في غير هذا الموضع. وقد بين ذلك علماء المسلمين." اهـ
تحليل عبارته
هذا هو موقف ابن تيمية من علم المنطق لخصه لنا بعبارته، وسوف نحلل عباراته تحليلا نقديا ليتميز مدى ما فيها من مطابقة للصواب.
أولا: لا تشتمل كتب المنطق على علم يؤمر به شرعا
يدعي ابن تيمية أن كتب علم المنطق لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وسياق كلامه يدل على العموم، ونحن نعلم أن الشريعة تأمر بكل ما فيه فائدة ومصلحة للإنسان، إما في عقيدته أو في أعماله. وإذا فرضنا أن علم المنطق لا يشتمل على علم من شأنه أن يكون مأمورا به في الشريعة مطلقا، فمعنى ذلك أنه لا يوجد في علم المنطق أمر من الأمور التي يمكن أن تكون مفيدة للناس في دنياهم وآخرتهم. وهذه النتيجة هي المفهوم من عبارته، ولكنها باطلة للوجوه التالية.
وجوه بطلان قوله
1 - نصه على صورة القياس: أن ابن تيمية نفسه قال: "أما البرهان فصورته صورة صحيحة، وإذا كانت موادُّه صحيحة، فلا ريب أنه يفيد علما"اهـ، فهو هنا ينص بصراحة على أن صورة القياس المذكورة في علم المنطق صحيحة مطلقا، وأنها إن صحت موادها فلا ريب أن القياس يفيد علما صحيحا، ومعلوم في العقل والشريعة أن ما كان طريقا إلى العلم الصحيح فهو مأمور به شرعا، أو أنه مشروع، فلا يجوز أن يقال إن بعض الطرق الصحيحة المؤدية للعلم غير مأمور بها في الشريعة أو أنها غير مشروعة.
فالحاصل أن ابن تيمية تناقَضَ هنا. والحقيقة أن كون صورة القياس صحيحة مطلقا هو أمر اتفق عليه سائر العقلاء ولذلك فقد اتفقوا على القول بها والحض على تعليمها للاستفادة منها، وإنما جئنا بعبارة ابن تيمية هنا لأن غرضنا هو بيان فساد مقدماته التي جاء بها للاعتراض على علم المنطق من نفس كلامه.
يبقى هنا شيء، وهو أن ابن تيمية اعترض على حصر المناطقة لمواد البرهان بالمواد التي نصوا عليها، وهذا الأمر سوف نناقشه لاحقا، ولكن من المعلوم أنه إن اعترض على جهة من جهات المنطق وأقر بصحة جهة أخرى منه، فإنه لا يجوز له القول بأن علم المنطق لا يحتوي على علم يؤمر به في الشريعة.
2 - اعترافه بصحة أغلب ما أثبته المناطقة: إن ابن تيمية نفسه قد قال: أثناء بيانه لفساد علم المنطق وكتب المناطقة:" فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا غالبا من جهة ما نفوه وكذبوا به، لا من جهة ما أثبتوه وعلموه."اهـ
إذن فإن ابن تيمية يقرُّ بأن المذكور في كتب علم المنطق أمرانِ، الأول ما أثبته المناطقة وقرروه، والثاني ما نفوه. وهو يعترف بصحة أغلب ما أثبتوه، ولكنه يخالفهم ويدعي غلطهم في ما نفوه، إذن بعض المذكور في كتب المنطق صحيح وبعضها غلط عنده، فإذا كان الأمر كذلك فكيف تأتَّى له أن يقول: إن كتب المنطق لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، ونحن نعلم أن طرق العلم الصحيحة قد أمرنا بها شرعا؟!
3 - اعترافه بأن بعضه حق: إن ابن تيمية قد عارض نفسه في نفس الفقرة المنقولة عند قوله:"وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل".
ثانيا: اعتراضه على الإمام الغزالي بأن المنطق أساس العلوم
اعترض ابن تيمية على الإمام الغزالي في قوله بأن علم المنطق هو أساس العلوم، وادعى بطلان ذلك بالعقل والشرع، ومع أننا قد تكلمنا على فائدة علم المنطق في القسم الأول من هذا الكتاب، إلا أننا سوف نبين فيما يلي كيفية استدلاله العقلي على ذلك، ونبطله، ثم نبين جهة استدلاله بالشريعة وننقض استدلاله أيضاً.
أ- استدلال ابن تيمية بالعقل على بطلان كلام الغزالي:
حاصل هذا الاستدلال: الادعاء بأن جميع العقلاء قد حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني، ويترتب على ذلك –إن صحَّ- عدم الحاجة بالفعل إلى المنطق.
بيان بطلان ادعائه
هذا الادعاء غلط، وبيان ذلك من وجوه:
¥