الوجه الأول: أن أرسطو من العقلاء، وهو قد حرر علومه بناءا على المنطق الذي أسَّسه.
الوجه الثاني: أن ابن تيمية قد اعترف في نفس كتبه بأن كثيرا من المتكلمين قد تأثروا بالمنطق اليوناني وحرروا كتبهم بناءا عليه، مثل الأبهري والرازي والكاتبي والآمدي وغيرهم، وإلا فلم اهتم ابن تيمية كثيرا بالرد على علم المنطق ولم اهتم أيضا ببيان الأغلاط التي قد يقع فيها من يعتمد عليه؟ فإن لم يكن ثَمَّة مَنْ حرر علومه بناءا على هذا المنطق، فما الداعي لهذا الردِّ؟!
الوجه الثالث: معلوم أن كثيرا من الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن مّلْكا قد حرروا علومهم وفلسفاتهم بناءا على المنطق.
الوجه الرابع: إن ابن تيمية قد ادعى أن بعض الناس قال: "إن كل المنطق حق"، فإذا صح نقله، فإنه يثبت أن هؤلاء قد اعتمدوا على المنطق في تحرير كتبهم لاستحالة العدول عن كل الحق في تأليف وتحرير العلوم عند من يعتقد بذلك عادة.
وإذا قصد ابن تيمية أن العقلاء لم يدرسوا نفس كتب المنطق التي كتبها اليونان ومع ذلك فإنهم قد حرروا علومهم، فليعلم أن كلامنا ليس على نفس الكتب كما سبق الإشارة إلى ذلك، بل كلامنا إنما هو منصبٌّ على القواعد المنطقية سواء ذكرت في الكتب أم لم تذكر فيها، ومعلوم أنَّ الإسلاميين قد أكثروا من كتابة الكتب المنطقية أيضا، ومعلوم بالضرورة اعتماد كبير من الناس على هذه الكتب في تحرير العلوم، وقد لا نحتاج نحن في هذا العصر بل حتى في زمان ابن تيمية نفسه إلى قراءة نفس كتب اليونان للاطلاع على قواعد المنطق اكتفاءا منا بقراءة الكتب التي حررها علماء المسلمين في ذلك. ولذلك فإننا يمكننا تحرير ومناقشة علوم غيرنا بناءا على نفس قواعد المنطق ومن دون الحاجة إلى قراءة نفس كتب اليونان.
وإذا قصد أن جميع العقلاء قد استغنوا عن جميع القواعد المنطقية التي يذكرها العلماء في كتبهم، ومع ذلك فقد حرروا علومهم، فإن كلامه باطل بالضرورة، وذلك بالالتفات إلى إقراره السابق بأن بعض المذكور في كتب المنطق هو الصحيح تماما، وللعلم بأن صورة القياس من الشكل الأول لا يستغني عنه واحد من الناس مطلقا، وكذلك مواد القضايا التي فيها الحواس والأخبار والتجربة وغير ذلك، فإن ذلك كله وسائل للعلم استخدمها العقلاء جميعا.
فالحاصل من ذلك كله أن ادعاء ابن تيمية بأن جميع عقلاء بني آدم قد حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني باطل تماما.
ب- استدلال ابن تيمية الشرعي على موقفه من علم المنطق بأن الله تعالى لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.
فهو عبارة عن مغالطة لم يكن ابن تيمية ليستطيع كتابتها لولا اعتماده على القوانين المغالطية التي ذكرها المناطقة وحذروا منها. وبيان ذلك من وجوه
الوجه الأول: إذا قصد ابن تيمية أنَّ الله لما لم ينصَّ نصَّاً على وجوب تعلم المنطق اليوناني، فهو إذن حرام وتعلمه باطل لعدم وجود هذا النصِّ.
فكلام ابن تيمية على ذلك يكون باطلا تماما، لأنه من المعلوم كما سبق بيانه أن الخلاف ليس هو على قراءة نفس كتب اليونان أو كلامهم، بل هو في إفادة القواعد المذكورة في كتب علم المنطق سواءا وجدت هذه القواعد في كلام اليونان أو في كلام غيرهم. وذلك أنه لا يجوز القول بحرمة الشيء أو بعدم شرعيته لمجرد عدم وجود نص على وجوبه باسمه وشخصه وعينه، لأن كونه مشروعا يمكن أن يؤخذ من عموم الأدلة أو من مطلقها أو بالقياس إلى مثيلها، ولا يلزم وجود النص التفصيلي لذلك.
الوجه الثاني: إذا كان ابن تيمية لا يقول بوجوب أو شرعية تعلم أمر ما إلا إذا نصَّتِ الشريعة نصا على ذلك باسمه ورسمه فهو كلام باطل تماما، لأن ذلك يلزم منه تعطيل أوامر الشريعة وعموماتها وإبطال القياس. فحاصل استدلال ابن تيمية على هذا الوجه أنه يقول: لا أقول بشرعية تعلم المنطق اليوناني إلا إذا ورد نص في الشريعة الإسلامية يقول:"إن تعلم المنطق اليوناني مشروع"، ولكن ما دام لا يوجد نص كذلك في الشريعة، إذن فإن تعلم المنطق اليوناني هو أمر غير مشروع. وهذا الكلام باطل لما علم من أن الكلام دائر لا على اسم المنطق وكونه منسوبا إلى اليونان أو إلى غيرهم، بل يُنظَرُ في المسألة من حيث هل هذه القواعد المذكورة في كتب علم المنطق مفيدة أو لا؟ وسواء بعد ذلك أكان العلم مكتشفا كفنٍّ مرتب ومكتوب في الكتب المنسوبة إلى
¥