وقال كذلك _ رحمه الله وغفر له _ في كتابه (الأسنى شرح أسماء الله الحسنى 2/ 132) بعد أن ذكر أقوال العلماء في استواء الله على عرشه: (وأظهر هذه الأقوال ـ وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ـ ماتظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات حسب ماتقدم) اهـ
قلت: غفر الله للإمام وعفا عنه فقد أقرّ أن إثبات العلو لله تعالى مما تضافرت عليه آي القرآن والأخبار، وأنه مذهب السلف من الصحابة والتابعين وأصحاب القرون المفضلة، ثم عدل عن منهجهم وحاد عن سبيلهم وتنكب طريقهم ليختار مذهب أهل الكلام المذموم ويرضى لنفسه مخالفة ما تظاهر عليه آي والأخبار .. اللهم نعوذ بك من الهوى. والشاهد من كلامه إقراره باستفاضة الأدلة بعلو الله تعالى على خلقه وأنه مذهب السلف
3_ وقال الغزالي: (فإن قيل فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلاق لفظ الإله، ولم يقل-أي الرسول- إنَّه موجود ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا هو في مكان، ولا هو في جهة، بل الجهات كلها خالية عنه، فهذا هو الحق عند قوم، والإفصاح عنه كذلك كما أفصح عنه المتكلمون ممكن، ولم يكن في عبارته-صلى الله عليه وسلم- قصور، ولا في رغبته في كشفه الحق فتور، ولا في معرفته نقصا قلنا:
من رأى هذا حقيقة الحق اعتذر بأنَّه إذا ذكره لَنَفَرَ الناسُ عن قبوله، ولبادروا بالإنكار، وقالوا: هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل، ولا خير في المبالغة في تنزيهٍ يُنتج التعطيل في حق الكافة إلا الأقلين، وقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داعيًا للحق، إلى سعادة الآخرة، رحمة للعالمين، كيف [يـ] نطق بما فيه هلاك الأكثرين، بل أمر أنْ لا يُكلم الناس إلا على قدر عقولهم ... وأما إثبات موجود في الاعتقاد على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديد جدًا بل لا يقبله واحد من الألف لاسيَّما الأمة الأمية العربية ا. هـ (إلجام العوام عن علم الكلام" ص41 - 41)
قلت: وكلام الغزالي أشبه بهذيان صاحبه الأول من أن فطر الناس مجبولة على التشبيه والتجسيم ولو خاطبهم الله بالتنزيه الذي _ لا تقبله عقولهم وفطرهم _ لنفروا عن الإسلام فكان الأنسب أن يخاطبهم بخلاف الحق وضد الهدى إلى أن يتعلموا قواعد التنزيه _ على يد المتكلمين _ ثم بعد ذلك يُخاطبون بالتنزيه الحقيقي .. اللهم نعوذ بك من الحور بعد الكور. والشاهد من كلامه إقراره بعدم مجيء النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بالتعطيل وان النصوص طافحة بالإثبات الذي هو تشبيه وتجسيم عنده وعند أصحابه، ولم ينبه النبي _ صلى الله عليه وسلم _ على ذلك حتى لا ينفر الناس عن الإسلام على حد زعمه
وهذا القدر من كلام الأشاعرة كاف فيما أريد إثباته _ وأقوالهم في ذلك كثيرة يضيق بها المقام _، والآن _ وبعد أن أقرّ أئمة الأشاعرة أنفسهم _ بتضافر آي القرآن و الأخبار بعلوّ على خلقه، ونقلهم إجماع السلف وأصحاب القرون المفضلة على ذلك، فما هو حكم معتقد الجهة عندهم؟ أو بعبارةٍ سلفية: ما هو حكم معتقد علو الله على خلقه واستوائه على عرشه عند الأشاعرة؟ وهذا هو مرادي من هذا البحث، إليك أقوالهم:
1_ قال أبو القاسم القشيري الأشعري الصوفي (465هـ) في رسالته (الرسالة القشيرية ص5) ما نصه: (سمعتُ الإمام أبا بكر ابن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ أبا عثمان المغربي يقول: كنتُ أعتقدُ شيئًا من حديث الجهة، فلما قدِمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا) اهـ.
2_ وقال أبو المعين النسفي الحنفي الماتريدي (508هـ) في (تبصرة الأدلة 1/ 169): ("والله تعالى نفى المماثلة بين ذاته وبين غيره من الأشياء، فيكون القول بإثبات المكان له ردًّا لهذا النص المحكم ـ أي قوله تعالى: {ليس كمثله شىء} ـ الذي لا احتمال فيه لوَجْهٍ ما سوى ظاهره، ورادُّ النص كافر، عصمنا الله عن ذلك" اهـ.
3_ وقال ابن نُجَيْم الحنفي الماتريدي (970هـ) في (البحر الرائق: باب أحكام المرتدين 5/ 129): (ويكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر".
¥