لقد ترك الكاتب النصوص المحكمة من كلام ابن تيمية رحمه الله، والتي لا تحتمل تأويلاً -وقد قدمنا بعضها- وراح يلف ويدور حول مقاطع من كلامه، اقتطعها بعجلة، وجعل يضغط عليها لتولد ما يوافق ما يختلج في صدره من الغضب غير المبرر على شيخ الإسلام، ثم طفق يعلق عليها بجمل لا ترضي إلا كل أجوف موتور.
وسوف يتبين لنا عند استعراض المقاطع التي علق عليها أن ما انتقده على ابن تيمية لم يكن سوى أوهاماً سرابية، لا أساس لها من الصحة.
ولكن قبل أن أستعرض هذه المقاطع - أو بعضها - ينبغي أن أعود إلى الوراء لأجلي باختصار الواقع الذي قال فيه ابن تيمية ما قال.
فمن المعلوم أن الشيعة كانوا يمثلون خطراً كبيراً على السنة وعلى العقيدة بما يشيعونه من طعون على الصحابة والخلفاء الراشدين، يقابلها غلو فاحش في آل البيت.
وكان ابن تيمية من أشهر من تصدى لهذا الخطر الداهم، وألف كتابه الشهير (منهاج السنة) في الرد على ابن مطهر الشيعي الذي طعن في الصحابة، وشكك في خلافة الخلفاء الراشدين، وغلا غلواً فاحشاً في حق آل البيت ورفعهم فوق الخلفاء. وأطال الكلام عن الأئمة الاثني عشر، ورفع كل واحد منهم فوق جميع أهل زمانه.
ومن تأمل كلام ابن تيمية رحمه الله يجده قد نهج نهجاً دقيقاً في رده على ابن المطهر، وتجلى هذا النهج في عدة مسالك، بعضها أوعر من بعض.
المسلك الأول: هو أن ابن تيمية رحمه الله جمع المطاعن التي طعن بها الشيعة الروافض على أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم من الصحابة، وقابلها بالمطاعن التي طعن بها النواصب والخوارج على عليّ وفاطمة وآل البيت؛ ليبين للروافض أن ما قيل عن الصحابة قيل أكثر منه عن آل البيت، وكله كذب، فليس من العقل ولا من الدين أن نرضى بالكذب لنهدم به الخصوم؛ فإن هذا سيؤدي إلى هدم الجميع.
وكذلك أيضاً قابل ما ذكره الروافض عن فضائل ومناقب آل البيت بما ذكرته الروايات الصحيحة عن فضائل ومناقب الصحابة؛ ليبين للروافض أن ما ذكر من مناقب آل البيت ذكر أكثر منه في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم؛ فليس من الصواب تأخير من قدمه الصحابة ولا تقديم من أخروه، بل الصواب أن نؤمن ونسلم بأن ترتيب الخلفاء الراشدين على ما كان عليه هو الحق والعدل.
والهدف والثمرة من هذه الموازنة أن نسلم بأن الجميع - من الصحابة والقرابة - أهل عدل وفضل، مع تقديم أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، ونفض كل ما قيل عن الصحابة وآل البيت من الأكاذيب والافتراءات.
وهذا من السهل إدراكه بمجرد استعراض كلام شيخ الإسلام كله في المسألة ورد متشابهه إلى محكمه، لكن الناقد (الشريف!) لم يكن عنده من الدوافع ما يحمله على هذا المنهج المنصف العادل، فطفق ينهش من بين السطور مزعاً متفرقة ثم يعلق عليها بما لا يرضي إلا مرضى القلوب.
فمن النماذج التي علق عليها قول ابن تيمية رحمه الله:"وعليّ رضي الله عنه لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء ولكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً بالقتال حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين، وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلاً وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا إن هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتل البغاة. لكن نازعه أكثر العلماء." ([1]).
ساق المؤلف هذا الكلام لشيخ الإسلام ثم علق عليه قائلاً " اتهامات ابن تيمية لحكم الإمام علي رضي الله عنه وعلمه ومواقفه وخصائصه ثم أخيراً اتهامه بالفساد واضحة وجلية، وابن تيمية ينسب إلى العلم، ولو كان من العوام لعذر واستتيب." ([2]).
ثم أخذ يسوق الأدلة على أن علياً أولى بالحق، وأنه أجدر بالإمامة ([3]).
وللرد على هذه الإيرادات أقول:
أولاً: لم يكن هناك داع لإيراد ما أورده من الأدلة علي أحقية علي رضي الله عنه؛ لأن ابن تيمية رحمه الله لم ينكرها، وليس في العبارة السابقة ما يدل على إنكاره لها.
ومما يؤكد ذلك أقواله الواضحة في مواضع كثيرة، منها قوله: "وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهية لأن يتعرض له بقتال أو سب، بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدراً وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله ورسوله من معاوية وأبيه وأخيه " ([4]).
وقوله:"وأما قوله "يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى" ([5]).
¥