وأما ما ورد في معنى هذا الحديث مرفوعاً عن أنس عند أبي يعلى والبزار، وعن أبي سعيد عند البزار، وعن معاذ عند الطبراني، فلم يسلم إسناد أحدهما من ضعيف أو متروك. وبذلك يظهر أن الدليل مع من حكم بنجاة أهل الفترة دون امتحان لهم في الآخرة، لأن الأصل عدمه، ولم يثبت في شيء من نصوص الوحيين، لا سيما وقد تضمن تكليفاً بالمحال، بل قال القرطبي: " إنه لا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف "، وقال الحليمي: " ليس هذا الحديث بثابت، وهو مخالف لأصول المسلمين، لأن الآخرة ليست بدار امتحان" والله -تعالى- أعلم.
المسألة الثانية: حكم من مات طفلا، فليس بين العلماء نزاع في أن الطفل من أطفال المسلمين إذا مات أنه في الجنة، نقل الإجماع في ذلك الإمام أحمد، وأكده جماعة كابن تيمية وغيره، إلا أن النووي نقله إجماع من يعتد به، وكأنه نظر إلى نزاع الحمادين وابن المبارك وإسحاق وبعض المتكلمة، فقد نقل عنهم التوقف في ذلك، لحديث عائشة - رضي الله عنها - عند مسلم قالت: توفي صبي من الأنصار، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل بالسوء، ولم يدركه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
وقد أجاب جماعة من العلماء بأن الحديث محمول على الزجر عن التسرع في القطع من غير دليل، أو بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل علمه أنهم في الجنة، ثم قال: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم "، أخرجه البخاري من حديث أنس.
ولم يتنازع العلماء أن من مات من أطفال المسلمين له في الدنيا حكم المسلمين، وإنما خالف مالك في ذلك إذا كان أبوه كافراً وأمه مسلمة فلم يجعل له حكم المسلم، والجمهور على أنه له حكم المسلم ما دام أحد والديه مسلماً.
وأما من يموت من أطفال المشركين فلم يشتهر بين السلف خلاف في الحكم عليهم بالكفر، وإنما الخلاف المشهور عنهم في الحكم عليهم بالنار أو الجنة، والمأثور عنهم في ذلك أقوال، لكنها تجتمع عند التأمل في قولين:
القول الأول: أنهم في النار، وهو قول جماعة من المتكلمة وأهل التفسير، وخطّأ السبكيُ النوويَ في نسبته هذا القول إلى الأكثر، وغلّط ابن تيمية من عزاه إلى أحمد، وإنما هو قول أبي يعلى من أصحابه، ودليل هذا القول أمور:
أحدها: قول الله -تعالى-: (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)، فإذا كان الكافر لا يلد إلا كافراً كان الوالد والمولود في النار.
والجواب: أن نوحاً -عليه السلام- يئس من أن يلقى أحداً من قومه يؤمن بما جاء به، ومعلوم أن الأطفال لا يعرض عليهم الدين صغاراً حتى يكبروا، وإنما أيقن نوح أن كل من يلده قومه يرد رسالة ربه بعدما يبلغ الحنث، فأطلق وصف الكفر عليه باعتبار ما سيكون.
الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الوائدة والموؤودة في النار "، وفي لفظ: " إلا أن تدرك الوائدة الإسلام، فيغفر الله لها؟ "
ومعلوم أن الموؤدة من أطفال المشركين وقد حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالنار.
والجواب: أن الحديث أخرجه أبو داود من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي مرسلاً، ثم علقه أبو داود عن زكريا، عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي، عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً،- وبهذا لو لم يكن معلقاً - وهو كذلك عند الطبراني في الكبير من طريق ضعيفة - لما صح الاحتجاج به لاختلاط أبي إسحاق، لا سيما وقد خالفه داود بن أبي هند عند أحمد، فجعله من مسند سلمة بن يزيد، لا من مسند ابن مسعود، وكأن حديث ابن أبي هند حرياً بالقبول لولا أن إسماعيل بن أبي خالد خالفه - كما في علل الدار قطني - فرواه عن الشعبي عن ابني أبي مليكة، دون ذكر لعلقمة ولا لابن مسعود، وله طرق عن غير الشعبي عند أحمد والبزار وغيرهما مضطربة، فتبين بذلك أنه لا يصح له إسناد.
¥