فأن "تمثالا " نكرة فيدخل تحته كل تمثال سواء كان معبودا أو غير معبود , وجاء في لفظ عند مسلم:" ولا صورة إلا طمستها " ولفظ الصورة والتمثال يدخل تحته " المجسد والمسطح " , والطمس في اللغة: الدروس والإمحاء يقال: طُمست داره إذا درست , وطمست عينه أذا ذهب بصرها , وقد جاء عند الترمذي وأحمد في وصف الدجال:" أ، ه مطموس العين " , وجاء عند البخاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:" واتقلوا ذا الطفيتين والأبتر , فإنهما يطمسان البصر ويستسقطان الحبل " وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم .. } الآية
فدل ذلك على أن الطمس يراد به: هدم المجسد ومحو المرسوم.
والجواب: أن هدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للتماثيل التي كانت حول البيت أنما كان لأنها كانت تعبد من دون الله بإجماع العلماء.
فلا يندرج تحت هذا الحكم التماثيل التي لم تعبد ولم تصنع للعبادة.
وأما حديث أبي الهياج فهو: عام , لكنه:
ــ إما أن يكون عاما مرادا به العموم غير مخصوص
ــ وإما أن يكون عاما مرادا به العموم لكنه مخصوص
ــ وإما أن يكون عاما مرادا به الخصوص:
أما الأول: فيشكل عليه أمران:
الأمر الأول: حديث عائشة في الصحيحين قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل , فلما رأه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هتكه وقال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " , قالت " فجعلنا وسادة أو وسادتين ".
وفي لفظ عند مسلم:" فكان يرتفق بهما في البيت " أي: يتكئ أو ينام عليها.
وجاء في لفظ آخر: " أنها نصبت سترا فيه تصاوير فنزعه ".
وجاء في لفظ له أيضا:"وقد سترت على بابي درنوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني فنزعته " والدرنوك: الستر الغليظ.
وجاء في لفظ آخر له أيضا: " الذين يشبهون (بتشديد الباء) بخلق الله "
فإن في الحديث تغليظا على المصورين بذكر المضاهاة والتشبيه بخلق الله , ونهيا عن الصور المعلقة , وإقرار للصور غير المعلقة أو الممتهنة.
وهذا يعني: أن المضاهاة والمشابهة تكون بعبادة التماثيل , أو بتعليقها المشعر بتعظيمها , فإن العبادة والتعظيم لا يكونان إلا لله تعالى فمن صرف شيئا منهما لغير الله فهو مضاه لله به.
فدل هذا على أن الصور المسطحة إذا لم تعلق لا تدخل في عموم حديث أبي الهياج عن علي.
واعترض ذلك بثلاثة اعتراضات:
الأعتراض الاول: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استعمل الصور المسطحة , ولكنه أنكر صنعها وأغلظ على صانعيها , فدل ذلك على أنها محرمة.
والجواب: أنها لو كانت محرمة مطلقا لما جاز للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يستعملها , إذ لو كانت محرمة في ذاتها لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبعد الناس عن استعمالها , إذ كيف يحرمها ويستعملها.
الأعتراض الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هتك السترة , والهتك: الإتلا ف , فلو لم تكن الصورة محرمة مطلقا لما جاز له إتلاف المال.
والجواب من وجهين: الوجه الاول: أن الهتك يراد به: النزع , بدليل الروايات الأخرى " فنزعه " , " فأمرني فنزعه " , " أخريه " , " حلي هذا".
الوجه الثاني: أنه على التسليم بأن الهتك هو الإتلاف فليس المراد به التمزيق بحيث لا ينتفع به بعد ذلك , وإنما المراد به حينئذ: أن لا ينتفع به كسترة بدليل: أنهم استعملوه فجعلوه وسادة او وسادتين.
الأعتراض الثالث: أن حديث عائشة كان قبل تحريم الصور , ثم حرمت الصور فكان حديثها منسوخا.
والجواب: أن القول بالنسخ لا يصح إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يتعذر الجمع بين الدليلين.
الشرط الثاني: أن يعرف تأريخ الدليلين.
وكلا الشرطين غير متوفر: فإن تأريخ الدليلين مجهول , وأما الجمع بينهما فممكن ـ لما تقدم بيانه ـ: " من أن المحرم عبادة التماثيل أو تعليقها المشعر بتعظيمها , وأن غير المعلق مما يمتهن غير محرم ".
الأمر الثاني: حديث عائشة في الصحيحين قالت: " كنت ألعب بالبنات عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا دخل يتقمعن فيسربهن إلي فيلعبن معي , وفي لفظ مسلم: " كنت ألعب بالبنات في بيته وهن اللعب ".
فإن جماهير العلماء جوزوا صنع هذه اللعب وبيعها لحاجة البنات إلى التدرب بهن على تربية الأطفال , وعلى تدبير شؤون البيوت عملا بحديث عائشة فإن فيه إذنا من الشارع في مثل هذه الصور.
لكن هل هذا النوع من الصور داخل في عموم حديث علي ثم استثني؟ أو لم يدخل أصلا في عمومه؟
إن قلنا بالأول: كان حديث علي " عاما مرادا به العموم المخصوص ".
وإن قلنا بالثاني: كان حديثه " عاما مرادا به الخصوص ".
وعلى كلا الأمرين لا يكون حديثه " عاما مرادا به العموم غير مخصوص ".
والحاصل: أن هنا نوعين من تصوير ما له روح: أحدهما: مجسم , والآخر مسطح , وقد شملها حديث علي من حيث اللفظ , لكن لما أذن فيهما الشارع دل ذلك على أن حديث علي لا يشملهما من حيث الحكم , إما لأنهما مستثنيان , وإما لأن الشارع لم يرد إدخالهما أصلا.
وعلى أي حال: فحديث علي إنما يشمل المنصوب من الصور المجسمة والمسطحة , ولا يشمل غير المنصوب سواء كان مجسما كلعب الأطفال أو مسطحا كالرسوم التي تكون على الفرش والوسائد ونحوها.
=================
بإذن الله سبحانه يتبع البقيه
¥