قال السبكي: ولا شك أن الاختلاف في الأصول ضلال وسبب كل فساد كما أشار إليه القرآن وأما ما ذهب إليه جمع من أن المراد الاختلاف في الحرف والصنائع فرده السبكي بأنه كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوص للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع فلا بد من خصوصية قال: وما ذكره إمام الحرمين في النهاية كالحليمي من أن المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب فلا ينساق الذهن من لفظ الاختلاف إليه
(رحمة) للناس كذا هو ثابت في رواية من عزى المصنف الحديث إليه فسقطت اللفظة منه سهواً أي اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعددة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بكلها تضيق بهم الأمور من إضافة الحق الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم ولم يكلفوا ما لا طاقة لهم به توسعة في شريعتهم السمحة السهلة
فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة وفضيلة جسيمة خصت بها هذه الأمة
فالمذاهب التي استنبطها أصحابه فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوعها كشرائع متعددة له وقد وعد بوقوع ذلك فوقع وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم
أما الاجتهاد في العقائد فضلال ووبال كما تقرر والحق ما عليه أهل السنة والجماعة فقط
فالحديث إنما هو في الاختلاف في الأحكام، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي عموما
ً فيكفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حال ما على وجه ما.
وأخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد أو عمر بن عبد العزيز لا يسرني أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة ويدل لذلك ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فبأيهم اقتديتم اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة قال السمهودي: واختلاف الصحابة في فتيا اختلاف الأمة
وما روي من أن مالكاً لما أراده الرشيد على الذهاب معه إلى العراق وأن يحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن. فقال مالك: أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم افترقوا بعد موته صلى الله عليه وسلم في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم وقد قال صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة كالصريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام كما نقله ابن الصلاح عن مالك من أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطئ ومصيب فعليك الاجتهاد قال وليس كما قال ناس فيه توسعة على الأمة بالاجتهاد إنما هو بالنسبة إلى المجتهد لقوله فعليك بالاجتهاد فالمجتهد مكلف بما أدّاه إليه اجتهاده فلا توسعة عليه في اختلافهم وإنما التوسعة على المقلد
فقول الحديث اختلاف أمتي رحمة للناس أي لمقلديهم ومساق قول مالك مخطئ ومصيب إلخ إنما هو الرد على من قال من كان أهلاً للاجتهاد له تقليد الصحابة دون غيرهم
وفي العقائد لابن قدامة الحنبلي أن اختلاف الأئمة رحمة واتفاقهم حجة انتهى.
[فإن قلت] هذا كله لا يجامع نهى الله تعالى عن الاختلاف بقوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} وقوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} الآية
[قلت] هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض وقد قام بأعباء الرد عليه جمع جم منهم ابن العربي وغيره بما منه أنه سبحانه وتعالى إنما ذمّ كثرة الاختلاف على الرسل كفاحاً كما دل عليه خبر إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم وأما هذه الأمة فمعاذ الله تعالى أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين لأنه أوعد الذين اختلفوا بعذاب عظيم والمعترض موافق على أن اختلاف هذه الأمة في الفروع مغفور لمن أخطأ منهم فتعين أن الآية فيمن اختلف على الأنبياء فلا تعارض بينها وبين الحديث
وفيه رد على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض وقد عمت به البلوى وعظم به الخطب قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول وللقليل منهم غلطات وزلقات ومفردات منكرة
وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صواباً ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة وكلما خالفوا فيه لقياس أو تأويل
قال وإذا رأيت فقيهاً خالف حديثاً أو ردّ حديثاً أو حرّف معناه فلا تبادر لتغليطه فقد قال علي رضي الله عنه لمن فال له أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟!
¥