تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[لماذا أبقى الصحابة الصور في قصر كسرى؟]

ـ[محمد الأمين]ــــــــ[13 - 08 - 02, 09:31 ص]ـ

المسألة خلافية قديمة. وهي منصبة على قاعدة أصولية مختلف بها منذ زمن الصحابة. ألا وهي:

هل نطبق حرفية النص أم روح النص؟

بمعنى هل علينا أن نطبق النص بحرفيته وعلى ظاهره، أم نحاول أن نفهم روحه؟

اختلف الصحابة في هذا. ولا يخفى عليك حديث صلاة العصر في بني قريظة. بعض الصحابة رضوان الله عليهم فهموه على ظاهره، وبعضهم فهم العلة

المقصودة منه. وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم الطرفين.

والمسألة مشابهة هنا لورود نصوص في تحطيم التماثيل وطمس الصور. فمن فهم النصوص حرفياً لزمه تحطيم كل تمثال وطمس كل صورة. وقال أغلب

هؤلاء بجواز الصور الشمسية لأنها مجرد حبس ظل. ومن حرم هذه فإنه تناقض لأنه جمع بين المذهبين.

والمذهب الثاني هو أن سبب تحريم الصور والتماثيل حتى لا تصبح ذريعة للشرك أو للتبرك. ولذلك كثير من العلماء يرون جواز وضع الصور في موضع مهان.

فيجوز رسم الصور على السجاد الذي يداس بالأقدام، لأن هذا لا يقدّس. ويجوز كذلك وضع تماثيل بدون رأس، لأنها تبدو ناقصة. ويجوز وضع صور في غير

موضع ظاهر. فلا يجوز تعليق الصورة على الحائط، لكن يجوز وضعها بين صفحات الكتاب إن أمنوا بأن لا تقدس هذه الصورة (كأن تكون صورة شيخ أو ولي).

وأجاز الجمهور صور غير ذي روح (نباتات وطبيعة).

بل هناك من أجاز صنع التماثيل والصور إن أمن عدم التقديس. وكان الإمام القرافي (من الأصوليين المالكية) يصنع التماثيل بنفسه!

ويبدو أنه مذهب جمهور الصحابة، بل إجماعهم. حيث أنهم لم يحطموا التماثيل والصور في بلدان فارس والشام والعراق، لكنهم حطموها في بلاد الهند

وبلاد العرب. ذلك أنها لم تكن تعبد في فارس والشام ومصر. وتركوا تلك الصروح الضخمة والتماثيل الكثيرة إلى اليوم.

وقد دخل سعد بن أبي وقاص (فاتح العراق وأحد المبشرين للجنة) قصر كسرى في المدائن. وفي ذلك القصر صور كثيرة على الجدران وتماثيل. ولم يهدم

منها شيئاً، بل بقيت ليومنا هذا. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا على غيره. فهذا إجماع منهم على جواز إبقائها إن لم تكن تعبد من دون الله ولم يكن لها أي قدسية.

قال الطبري في تاريخه (2\ 464): «لما دخل سعد المدائن فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين}. وصلى فيه صلاة الفتح، ولا تصلى جماعة. فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهن. واتخذه مسجداً. وفيه تماثيل الجص: رجال وخيل. ولم يمتنع –ولا المسلمون لذلك– وتركوها على حالها. قالوا: وأتم سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أول جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن في سنة ست عشرة».

وقد ذكر الطبري كذلك أن الحسن رضي الله عنه في أثناء خلافته قد نزل في قصر كسرى. وقد بقي القصر كما هو حتى عهد أبي جعفر المنصور حيث حاول أخذ بعض أحجاره، ليس لسبب ديني، وإنما ليستفيد منها في بناء بغداد. ثم إنه عدل عن الفكرة.

وقال الطبري في تاريخه (4\ 478): «عن علي بن عصمة أن خالد بن برمك خط مدينة أبي جعفر (المنصور، وهي مدينة بغداد) له، وأشار بها عليه. فلما احتاج إلى الأنقاض، قال له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن، وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قال: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ قال: لأنه عَلَمٌ من أعلام الإسلام، يستدِلُّ به الناظر إليه على أنه لم يكن ليُزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو على أمر دين. ومع هذا يا أمير المؤمنين فإن فيه مصلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. قال: هيهات يا خالد. أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه وحمل نقضه. فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل، فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد لو عمل. فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد كنتُ أَرَى قبل ألا تفعل. فأما إذا فعلت، فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده، لئلا يُقال إنك قد عجزت عن هدمه. فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر ألا يُهدم».

وكانت على جدران إيوان كسرى صور ملونة بالحجم الطبيعي، مرسومة بدقة فائقة. وما تزال هذه الصور إلى يومنا هذا. فهذه لم تكن مدفونة في الرمل طبعاً، بل هذا القصر دخله عدد من الصحابة وأقاموا فيه. فكيف لم يروا الصور وهي واضحة ما تزال لهذا اليوم؟! أما عدم القدرة على الهدم، فبديله الطمس (أي للصور). وهذا لا يحتاج لا لنفقة كبيرة ولا لتسخير عدد هائل من الناس. ومن السهل أن يأمر الحاكم بطلي الجدران من جديد. فلم يبق إلا أنهم فهموا أحاديث طمس الصور بأنها خاصة بما كانت له قدسية أو ما كان يعبد من غير الله.

وهذه الصور استمرت مشاهدة يصفها المؤرخون والأدباء. قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (1\ 295): «وقد كان في الإيوان صورة كسرى أنو شروان، وقيصر ملك أنطاكية، وهو يحاصرها ويحارب أهلها». وقد وصفها الشاعر العباسي الشهير البحتري في قصيدته السينية الرائعة. وكان عبد الله بن المعتز يقول: «لو لم يكن للبحتري: من قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى –فليس للعرب سينية مثلها– وقصيدته في وصف البركة، لكان أشعر الناس في زمانه». فيصور لنا البحتري هذه الصور بأنها من الدقة بحيث يكاد يتخيلها حقيقة فيلمسها بيده ليتأكد أنها مجرد صورة. فيقول في قصيدته:

فإذا ما رأيت صورة أنطاكية * ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشروان يزجي الصفوف تحت الدرفس

في اخضرار من اللباس على أصفر * يختال في صبيغة ورس

وعراك الرجال بين يديه * في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوي بعامل رمح * ومليح من السنان بترس

تصف العين أنهم جد أحياء * لهم بينهم إشارة خرس

يغتلي فيهم ارتيابي حتى * تتقراهم يداي بلمس

فلم أبقوا تلك الصور؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير