اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى النَّهْي عَنْ السُّؤَال مِنْ غَيْر ضَرُورَة.
قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي سُؤَال الْقَادِر عَلَى الْكَسْب عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحّهمَا التَّحْرِيم لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث.
وَالثَّانِي: يَجُوز مَعَ الْكَرَاهَة بِشُرُوطٍ ثَلَاثَة: أَنْ لَا يُلِحّ وَلَا يُذِلّ نَفْسه زِيَادَة عَلَى ذُلّ نَفْس السُّؤَال , وَلَا يُؤْذِي الْمَسْئُول؛ فَإِنْ فُقِدَ شَرْط مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ: يُتَعَجَّب مِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ السُّؤَال مُطْلَقًا مَعَ وُجُود السُّؤَال فِي عَصْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ السَّلَف الصَّالِح مِنْ غَيْر نَكِير , فَالشَّارِع لَا يُقِرّ عَلَى مَكْرُوه.
قُلْت: لَعَلَّ مَنْ كَرِهَ مُطْلَقًا أَرَادَ أَنَّهُ خِلَاف الْأَوْلَى , وَلَا يَلْزَم مِنْ وُقُوعه أَنْ تَتَغَيَّر صِفَته وَلَا مِنْ تَقْرِيره أَيْضًا , وَيَنْبَغِي حَمْل حَال أُولَئِكَ عَلَى السَّدَاد , وَأَنَّ السَّائِل مِنْهُمْ غَالِبًا مَا كَانَ يَسْأَل إِلَّا عِنْد الْحَاجَة الشَّدِيدَة , وَفِي قَوْله: " مِنْ غَيْر نَكِير " نَظَر فَفِي الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة الْوَارِدَة فِي ذَمّ السُّؤَال كِفَايَة فِي إِنْكَار ذَلِكَ.
(تَنْبِيه): جَمِيع مَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَأَلَ لِنَفْسِهِ , وَأَمَّا إِذَا سَأَلَ لِغَيْرِهِ فَاَلَّذِي يَظْهَر أَيْضًا أَنَّهُ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال. اهـ.
قال صاحب " عون المعبود " (ح 4610).
اِعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَة عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدهمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّبْيِين فِيمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ أَمْر الدِّين وَذَلِكَ جَائِز كَسُؤَالِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة فِي أَمْر الْخَمْر حَتَّى حُرِّمَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ حَلَالًا , لِأَنَّ الْحَاجَة دَعَتْ إِلَيْهِ.
وَثَانِيهمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّعَنُّت وَهُوَ السُّؤَال عَمَّا لَمْ يَقَع وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَة , فَسُكُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْل هَذَا عَنْ جَوَابه رَدْع لِسَائِلِهِ , وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ كَانَ تَغْلِيظ لَهُ فَيَكُون بِسَبَبِهِ تَغْلِيظ عَلَى غَيْره , وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَم الْكَبَائِر لِتَعَدِّي جِنَايَته إِلَى جَمِيع الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَذَلِكَ غَيْره.
وعلى ما تقدم فإني أسألك أخي الكريم لتسأل نفسك وكذا من سألك هل هذا السؤال تدعو إليه الحاجة أو تكون به أي فائدة؟
وهذا لا ينفي إن ظهرت الحكمة في أمرٍ أن تُذكر إن فيها فائدة كما يفعل أهل العلم مثل: " آية القطع " قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38)
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا الْعَلَاء الْمَعَرِّيّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَاد اِشْتَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ إِشْكَالًا عَلَى الْفُقَهَاء فِي جَعْلهمْ نِصَاب السَّرِقَة رُبُع دِينَار وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا دَلَّ عَلَى جَهْله وَقِلَّة عَقْله فَقَالَ:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ***** مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْع دِينَارِ
تَنَاقَضَ مَالُنَا إِلَّا السُّكُوتَ لَهُ ***** وَأَنْ نَعُوذ بِمَوْلَانَا مِنْ النَّار
وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ عَنْهُ تَطَلَّبَهُ الْفُقَهَاء فَهَرَبَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَجَابَهُ النَّاس فِي ذَلِكَ فَكَانَ جَوَاب الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب الْمَالِكِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - أَنْ قَالَ:
" لَمَّا كَانَتْ أَمِينَة كَانَتْ ثَمِينَة وَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ "
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مِنْ تَمَام الْحِكْمَة وَالْمَصْلَحَة وَأَسْرَار الشَّرِيعَة الْعَظِيمَة فَإِنَّ فِي بَاب الْجِنَايَات نَاسَبَ أَنْ تُعَظَّم قِيمَة الْيَد بِخَمْسِمِائَةِ دِينَار لِئَلَّا يُجْنَى عَلَيْهَا وَفِي بَاب السَّرِقَة نَاسَبَ أَنْ يَكُون الْقَدْر الَّذِي تُقْطَع فِيهِ رُبُع دِينَار لِئَلَّا يُسَارِع النَّاس فِي سَرِقَة الْأَمْوَال فَهَذَا هُوَ عَيْن الْحِكْمَة عِنْد ذَوِي الْأَلْبَاب.
وَلِهَذَا قَالَ " جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّه وَاَللَّه عَزِيز حَكِيم " أَيْ مُجَازَاة عَلَى صَنِيعهمَا السَّيِّئ فِي أَخْذهمَا أَمْوَال النَّاس بِأَيْدِيهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يُقْطَع مَا اِسْتَعَانَا بِهِ فِي ذَلِكَ نَكَالًا مِنْ اللَّه أَيْ تَنْكِيلًا مِنْ اللَّه بِهِمَا عَلَى اِرْتِكَاب ذَلِكَ " وَاَللَّه عَزِيز " أَيْ فِي اِنْتِقَامه" حَكِيم " أَيْ فِي أَمْره وَنَهْيه وَشَرْعه وَقَدَره. كما ذكر ابن كثير رحمه الله نعالى.
ونلاحظ من هذا الموقف وغيره أن العلماء كانوا يهتمون ببيان أن الشريعة لا تجمع بين متضادين، ولا تُفرق بين متماثلين؛ على نحو ما فصل ابن القيم رحمه الله تعالى في أكثر من موضع من كتبه، وليس هذا موضع البسط.
أما أن نبحث فيما لا يُفيد فإن هذا من مداخل الشيطان فالشيطان مِلْحاحٌ بطيء اليأس فإنه إن عجز عن إيقاع الإنسان في أوائل مداخله فإنه يُحسن له الأعمال المرجوحة المفضولة قيأمره بها ويُحسنها في عينه، ويُزينها له، ويُريه أن فيها من الفضل كذا وكذا ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسباً وربحاً.
لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم أفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقاب الأول.
وجزاكم الله خيراً
¥