قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:سبق المفردون، أي المنفردون، المعتزلون عن الناس، من فَرَد إذا اعتزل، وتخلى للعبادة، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله، أي سبقوا بنيل الزلفى، والعروج إلى الدرجات العلى، روي بتشديد الراء وتخفيفها، وقال الإمام النووي في الأذكار: والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
ومعلوم أنه لاشيء أحبّ إلى الذاكرين من الخلوة مع الله، عن الخلق، حتى إنه لتستوحش قلوبهم ممن يقطع عليهم ماهم فيه من نعيم الذكر.
وسبب النعيم، والإنشراح، واللذّة، والحلاوة، التي يشعر بها المنقطع لذكر الله تعالى، أن يتصل بالله تعالى مباشرة، حتى إنَّ الله تعالى يذكر الذاكر في نفسه العليّة، فتكون روحه راقية إلى ذلك المقام العالي، والجنّة إنما هي هناك، أعلاها تحت العرش، في جوار الله تعالى، كما قال تعالى: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، فصيب الذاكر من نعيم الجنة، وريحها، بحسب خشوعه، وحضور قلبه، وقربه روحه من ربه.
ولهذا صار بين الذكر، وما في الجنة ارتباط عجيب، وفي الترمذي مرفوعا: (رأيت إبراهيم ليلة أسرى بى , فقال: يا محمد أقرىء أمتك السلام , و أخبرهم أنَّ الجنة طيبة التربة , عذبة الماء , و أنها قيعان , و غراسها: سبحان الله , و الحمد لله، و لا إله إلا الله , و الله أكبر , ولا حول و لا قوة إلا بالله) وفيها أيضا: (من قال سبحان الله، وبحمده، غرست له نخلة في الجنة).
وقد قال الحسن البصري رحمه الله: تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلاّ فاعلموا أن الباب مغلق.
وقد علم كلُّ من يطلب العلم بإخلاص، أنه يضعف إخلاصه، ويذهب عنه نور العلم، ويقسو قلبه، إذا ترك أوراد الذكر، وإنما سميت أورادا، لأن القلب يرد إليها، فيرتوي من الظمأ، فإن تركها ذبلت روحه، وضعفت قوته، وتسلط عليه الشيطان.
ومن أسرار الذكر أن الذاكرين الله تعالى كثيرا، يرفع الله ذكرهم في الناس، وذلك أن الإنسان يحبُّ بطبعه أن يُذكر بين الناس، فإن ترك ذلك، وآثر عليه أن يخلو لذكر الله تعالى، واشتغل بذكر الله تعالى، عن ذكر نفسه، آتاه الله تعالى أن يرفع ذكره بين الناس، حتى إنَّ الذاكر يموت، ويبقى ذكره خالداً، وهذا هو سر تخليد الله تعالى كلّ من انقطع لذكر الله، أوجاهد لإعلاء ذكر الله تعالى على كل ما سواه، تخليدهم في القرآن، حتى خلَّد الله تعالى ذكر الكلب الذي صاحب أهل الكهف، لمجرد أنه صاحب من انقطعوا لذكر الله تعالى، وتركوا من أجل ذلك كلّ الخلق.
كما خلَّد الله تعالى الأنبياء في الآخرِين، كما قال تعالى في الصافات: (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم) و (تركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون) و (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين) ونظائرها في القرآن.
وخلد الله ذكر العلماء العاملين، والأبرار الصالحين، ورفع ذكرهم بين الناس أجمعين.
هذا،ومن فضائل الذكر، وأسراره، ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: إن الذكر في القرآن على عشرة أوجه:
الأول: الأمر به مطلقا، ومقيدا، الثاني: النهي عن ضده من الغفلة، والنسيان، الثالث: تعليق الفلاح باستدامته، وكثرته، الرابع: الثناء على أهله، والإخبار بما أعد الله لهم من الجنة، والمغفرة، الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره، السادس: أنه سبحانه جعل ذكره لهم، جزاءً لذكرهم له، السابع: الإخبار أنه أكبر من كلِّ شيء، الثامن: أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة كما كان مفتاحها، التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنهم أولو الألباب دون غيرهم، العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة، وروحها، فمتّى عدمته كانت كالجسد بلا روح.
وقد ذكر ابن القيم في الوابل الصيب، أسرار الذكر فأوصلها إلى مائة، وهاهي أهمها مختصرة:
أنّه يطرد الشيطان، ويقمعه، ويكسره.
قلت: نقل عن بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون: ما لهذا فيقال: قد مسه الإنسي.
وأنّه يرضي الرحمن عزّ، وجل.
وأنّه يزيل الهم، والغم عن القلب.
¥