واستعداده بل لأمر آخر وراء ذاته. فبالمعنى الذي يسمى السيف في الغمد صارماً يصدق اسم الخالق على الله تعالى في الأزل فإن الخلق إذ أجري بالفعل لم يكن لتجدد أمر في الذات لم يكن، بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود في الأزل. وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسيف اسم الصارم لا يصدق في الأزل فهذا حظ المعنى. فقد ظهر أن من قال إنه لا يصدق في الأزل هذا الاسم فهو محق وأراد به المعنى الثاني، ومن قال يصدق في الأزل فهو محق وأراد به المعنى الأول. وإذا كشف الغطاء على هذا الوجه ارتفع الخلاف.
الاقتصاد في الاعتقاد (48)
وهذا كلام يوافقهم عليه أهل السنة بالجملة إلا أن وجه المخالفة أن أهل السنة يرون أن الله لم يأت عليه زمان قد خلا فيه من الفعل من خلق ورزق إلخ وهي المسألة المسماة بجواز حوادث لا أول لها مع إثبات أولية الله سبحانه وتعالى.
فأن يخلق أكمل من أن لا يخلق كما قال ابن أبي العز: وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل , ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له؛ فلكل مخلوق أول , والخالق سبحانه لا أول له؛ فهو وحده الخالق , وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.
"شرح الطحاوية" (130)
وقال شيخ الإسلام: والذات موصوفة بغاية الكمال الممكن؛ فإن كان كمالها في أن يكون ما فيها بالقوة هو بالفعل من غير إمكان ذلك ولا كون دوام الإحداث هو أكمل من أن لا يحدث عنها شيء كما قد يقوله هؤلاء الفلاسفة فيجب أن لا يحدث عنها شيء أصلا ولا يكون في الوجود حادث وإن كان كمالها في أن تحدث شيئا بعد شيء لأن ذلك أكمل من أن لا يمكنها إحداث شيء بعد شيء ولأن الفعل صفة كمال والفعل لا يعقل إلا على هذا الوجه ولأن حدوث الحوادث دائما أكمل من أن لا يحدث شيء ولأن هذا الذي بالقوة هو جنس الفعل وهذا بالفعل دائما.
منهاج السنة (1
207)
و قال شيخ الإسلام: فإن قال: إن نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقاً بالعدم.
قيل له: من أين لك هذا، وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه، ولا في المعقول ما يرشد إليه؟ وهذا يستلزم أن يصير الرب قادراً على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادراً عليه، فإنه إن لم يزل قادراً أمكن وجود المقدور، فإن كان المقدور ممتنعاً ثم صار ممكناً صار الرب قادراً بعد أن لم يكن، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء ولا تجدده، فإن الأزل ليس هو شيئاً معيناً، بل هو عبارة عن عدم الأولية، كما أن الأبد عبارة من عدم الآخرية،فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية.
الصفدية (1
65)
وقال الشنقيطي في كتابه رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص51: أما بالنظر إلى وجود حوادث لا أول لها بإيجاد الله، فذلك لا محال فيه ولا يلزمه محذور لأنها موجودة بقدرة وإرادة من لا أول له جل وعلا. وهو في كل لحظة من وجوده يحدث ما يشاء كيف يشاء فالحكم عليه بأن إحداثه للحوادث له مبدأ يوهم أنه كان قبل ذلك المبدأ عاجزاً عن الإيجاد سبحانه وتعالى عن ذلك. وإيضاح المقام أنك لو فرضت تحليل زمن وجود الله في الماضي إلى الأزل إلى أفراد زمانية أقل من لحظات العين أن تفرض أن ابتداء إيجاد الحوادث مقترن بلحظة من تلك اللحظات فإنك إن قلت هو مقترن باللحظة الأولى قلنا ليس هناك أولى البتة، وإن فرضت اقترانه بلحظة أخرى فإن الله موجود قبل تلك اللحظة بجميع صفات الكمال والجلال بما لا يتناهى من اللحظات وهو في كل لحظة يحدث ما شاء كيف شاء فالحكم عليه بأن لفعله مبدأ، لم يكن فعل قبله شيئاً يتوهم أن له مانعاً من الفعل قبل ابتداء الفعل، فالحاصل أن وجوده جل وعلا لا أول له وهو في كل لحظة من وجوده يفعل ما يشاء كيف يشاء فجميع ما سوى الله كله مخلوق حادث بعد عدم، إلا أن الله لم يسبق عليه زمن هو فيه ممنوع الفعل سبحانه وتعالى عن ذلك. فظهر أن وجود حوادث لا أول لها إن كانت بإيجاد من لا أول له لا محال فيه وكل فرد منها كائناً ما كان فهو حادث مسبوق بعدم لكن محدثه لا أول له وهو في كل وقت يحدث ما شاء كيف شاء سبحانه وتعالى.
هذا النص والذي قبله مستفاد من " قدم العالم" لكاملة الكواري
فتبين أن قول بعض الأشاعرة بأن الله خالق بالقوة وخالق بالفعل ورازق بالقوة ورازق بالفعل على مذهبهم ليس موافقا لقول أهل السنة على التمام كما قدمنا.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـ[عبد الباسط بن يوسف الغريب]ــــــــ[05 - 04 - 09, 08:03 ص]ـ
ثم وقفت على كلام لشيخ الإسلام يؤكد ما ذكرته
وقال شيخ الإسلام: وذكروا أشياء مما نقمت على أبي الحسن الأشعري وكان مما ذكروه قوله إن الرب لم يكن في الازل قادرا على الفعل وهذا أصل قول هؤلاء المتكلمين الذين احتجوا على حدوث العالم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ويلزم من ذلك امتناع أن يكون مقدورا للرب فقالوا صار الفعل ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا
ومعلوم عند من يعلم الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها أنه ليس في الكتاب ولا السنة شيء يدل على أن الرب لم يكن الفعل ممكنا له في الأزل أو لم يكن الفعل والكلام ممكنا له في الأزل أو أنه لم يزل معطلا عن الفعل أو عن الفعل والكلام لم يزل معطلا ثم إنه صار قادرا فاعلا متكلما بعد أن لم يكن كذلك
وقد يجيبون عن هذا بجواب فيه مغلطة فيقولون لم يزل قادرا ولكن المقدور كان ممتنعا في الأزل وهذا تناقض فإن المقدور لا يكون ممتنعا بل لا يكون إلا ممكنا ولأن ذلك يتضمن الإنتقال من الإمتناع إلى الإمكان بلا حدوث شيء وهو باطل.
الصفدية (2
163)
ويعنون أن الله كان منذ الأزل متصف بهذه الصفات لكن كان معطلا عن الفعل كما تقدم بيانه؛ وهذه نقطة مهمة جدا في بيان الفرق بين كلام أهل السنة وكلام هؤلاء لأن طالب العلم ربما قرأ أن بعضهم يثبت الصفات لله منذ الأزل لكن ربما لم يفهم الفرق الدقيق بين كلام أهل السنة وكلامهم فحقيقة كلامهم أن الله كان معطلا عن الفعل حتى فعل وهذه المسألة مرتبطة بمسألة حوادث لا أول لها كما تقدم والله أعلم.
¥