وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك، وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون إنها تفيد اليقين ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها ".
الأصل الثاني المنهجي الذي خالف فيه الرزاي البيهقي:
صنف الرازي كتاباً سماه: أساس التقديس، رد فيه على كتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى، وهذا الإمام منزلته عند أهل الحديث لا تخفى، فإذا علمت أن الرازي كَفَّر هذا الإمام، لم يعد لديك شك في عداوته لأهل الحديث.
وقد عقد الرازي في كتابه هذا الفصل الحادي والثلاثون في كلام كلي في أخبار الآحاد، وإذا طالعت هذا الفصل زادت معرفتك لمكانة الحديث وأهله عند الرازي، ومكانته في علم الحديث وعند أهله.
وكان مما قاله فيه ص217 - 218: " اشتهر فيما بين الأمة: أن جماعة من الملاحدة، وضعوا أخباراً منكرة، واحتالوا في ترويجها على المحدثين. والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها. وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح الإلهية، ويبطل الربوية؟ فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة.
وأما البخاري والقشيري فهما ما كانا عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، وأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى زماننا، فذلك لا يقوله عاقل، وغاية ما في الباب: أنا نحسن الظن بهما، وبالذين رويا عنهم.
إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر، لا يمكن إسناده إلى الرسول e قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين ".
قال مقيده عفا الله عنه: أين هذا الكلام من كلام البيهقي الذي جعل الأشعري ناصراً لأقوال المحدثين شارحاً لها، ومن بينهم الإمامان أبو عبد الله محمد بن اسمعيل البخاري وأبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري إماما أهل الآثار وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع رضي الله عنهما.
والحمد لله أن الرازي تنزل وأحسن الظن بهما ولم يخرجهما من الملة كما أخرج ابن خزيمة!.
ثم إن كان هؤلاء المحدثون بهذه الدرجة من الحماقة والسذاجة، فعلام ينصر الأشعري أقوالهم ويشرحها؟ أما كان له أن يقف منهم موقفاً يوبخهم فيه على حماقتهم وسذاجتهم وضررهم على الأمة؟.
ما يلزم الأشعرية من هذا التناقض:
يلزم الأشعرية من هذا التناقض أحد أمرين:
الأول: أن يخرجوا البيهقي وأمثاله من المحدثين من حزبهم، إذ أصوله في التلقي والاستدلال مناقضة لأصولهم.
الثاني: أن يخرجوا الرزاي وأمثال من المتكلمين، إذ هم أعداء للمحدثين، فكيف يكون الجميع أشعريين؟.
ولا ريب أنَّ الأشعرية لا يعتمدون على شيء من كلام البيهقي وأمثالِه، بل معولهم على أولئك المتكلمين الذين أسسوا بنيان المذهب وشيدوا أركانه، وإن كنت في شك من ذلك فانظر كتب الأشعرية في أصول الدين التي يعتمدون عليها، هل فيها اعتماد لقول محدث واحد ممن انتسب إلى الأشعري؟.
فإن قلت: وما شأن هؤلاء المحدثين في هذه المضايق؟ وأين محلهم من العلوم العقلية حتى تصير أقوالهم كالحقائق؟.
فأقول: هب أن الأمر كذلك، فثمة مسائل في أصول الدين مدخل النقل فيها أكبر من مدخل العقل، بحيث يكون مقتضى المنهج العلمي أن تعتمد أقوال أهل النقل والآثار لا أقوال النظار والمتكلمين.
وخذ مسألة الإيمان مثالاً على ذلك، فمعرفة حقيقة الإيمان لا مدخل للعقل فيها، فلماذا لم يعول الأشعرية على كلام محدثيهم؟
فهذا أبو المعالي الجويني ينقل في إرشاده ص396 قول أصحاب الحديث في أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان ثم يصرح بخلافه.
وهذا يهون إذا قارنته بقول الآمدي في غاية المرام ص311: " .. وبهذا أيضاً يتبين فساد قول الحشوية أن الإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ".
فهل بقي لأهل الحديث مكانة عند الأشعرية بعد نبز هذا الإمام منهم إياهم بالحشوية؟!.
¥