يقول الأستاذ عبد الله كنون: (فعمل إدريس على إبلاغ الدعوة الإسلامية خالصة من الزيغ والانحراف إلى الجميع، واستنفذ الذين استهوتهم البدع والأهواء من الضلال، ووحد كلمة المغرب وقلوب أهله من يومئذ على مذهب السنة والجماعة، فلم يمل عنه بعد ذلك حتى يوم الناس هذا) ([5]) واستدل على أنه ليس من الشيعة بمؤازرة مالك وأبي حنيفة لخروج محمد بن الحنفية النفس الزكية على أبي جعفر، قال: (والحق أن قضية إدريس ونعني قضية العلويين بملابساتها المأساوية، وقوة حجتها، وأهمية من يناصرونها، من رجال العلم والدين، كالإمامين أبي حنيفة ومالك بن أنس، هي في غنية عن أن نلتمس لها الأسباب والعلل في شيعية كل من تطوع لخدمتها وتحمس لنصرتها…) ([6]) ولو كانوا شيعة لما ءازرهم مالك رضي الله عنه وهو القائل عن الشيعة: (لا تكلمهم ولا ترو عنهم؛ فإنهم يكذبون). وهو الذي منع عنهم نصيبهم من الفيء، مستدلا بقوله تعالى (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا) الحشر: 10 لكونهم يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يترضون عنهم. ([7])
وقد وجد في أحد وجهي الدرهم المضروب في عهد الدولة الإدريسية كلمة: إدريس، وتحتها محمد رسول الله وتحتها كلمة علي. وهذا ما اعتبره بعض الباحثين الشيعة، دليلا أكيدا على أنه كان من الشيعة.
لكننا نقول: إن وجود كلمة علي على الدرهم، تدل على اعتزازه بنسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا هو الشرف الذي استحق به الملك، فلذلك طبعه على درهم الدولة تقريرا لفضيلة هذا النسب، وتعزيزا للدعيمة التي قامت عليها مملكته.
ودلالة كلمة علي على الاعتزاز بالنسب مساوية من جهة قوة الدلالة على المعنى الآخر، الذي هو تشيع الدولة الإدريسية، وإذا تساوت الدلالتان، فإننا ننظر إلى القرائن التاريخية التي من شأنها أن ترجح لنا أحد هذين المعنيين، وكل القرائن تدل على أن المولى إدريس لم يكن شيعيا، ولم ينشر في المغرب إلا المذهب السني.
بينما نجد أن تشيع الدولة الفاطمية قضية لا يناقش فيها عاقل، والأدلة التاريخية متضافرة على أنها دولة شيعية تتمسك بمذهبها وتنشره وتلزم به وتحكم على أساسه.
لذا فإن التشيع عندما دخل إلى المغرب على يد الفاطميين، بدأ يفرض على أتباعه الدخول في المذهب بالقوة، فأول ما فعل المهدي بعد أن استتب له الأمر: (أنه أمر يوم الجمعة أن يذكر اسمه في الخطبة، ويلقب بالمهدي أمير المؤمنين في جميع البلاد، فلما كان بعد صلاة الجمعة جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة، وأحضروا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم، وقتل من لم يوافق) ([8])، وهذا دليل على أن المغاربة لم يكونوا قبل ذلك على مذهب الشيعة، ودليل أيضا على أن المولى إدريس لم يكن يدعوا الناس إلى مذهب جديد ويقتلهم عليه، كما فعل المهدي الفاطمي.
بل يكفي للدلالة على أن المغرب لم يعرف التشيع قبل الدولة الفاطمية، أن هذه الأخيرة حاربت دولة الأدارسة، وهي التي باءت بوزر القضاء عليها وإسقاطها سنة 305 هجرية، ولو كانت الدولة الإدريسية شيعية لما تقاتلتا.
إذاً يمكننا أن نعتبر الدولة الفاطمية أول ظهور حقيقي لمذهب الشيعة في المغرب.
وإذا علمنا أن الدولة الفاطمية كانت شيعية على مذهب الإسماعيلية، وقد علمنا مما سبق أن الشيعة الاثني عشرية تكفر الشيعة الإسماعيلية، فإن هذا كاف في إحداث القطيعة التاريخية بين التشيع الذي نحن بصدد بحثه، وهو التشيع الاثنا عشري، والذي يتبرأ عقائديا من التشيع الإسماعيلي، ويكفر أتباعه، ويعتبرهم من جملة الكفار المخالفين للحق.
لكن استخدام الشيعة لهذه الحقائق التاريخية في دعوتهم اليوم عبر القنوات والشبكات، كلفنا المزيد من البحث لرسم صورة واضحة في إثبات أن المغرب لم يقبل التشيع، ولم يتشرب هذه العقيدة، وأنه مالكي حتى النخاع.
لقد نجح الشيعة الإسماعيلية في إقامة أول دولة شيعية لهم بالمغرب على يد داعيين كبيرين بعثهما أبو جعفر الصادق، ووطآ لقدوم عبيد الله المهدي، الذي كان أول ملوك الدولة الفاطمية.
المطلب الثاني: مراحل تأسيس الدولة الفاطمية:
جاء إلى المغرب داعيتان ينشران مذهب الشيعة تمهيدا لقيام المهدي، واسمهما الحلواني وأبو سفيان، ونشرا مذهبهما في أرض كتامة من بلاد المغرب.
¥