فقد نشب صراع بين دعاة عبيد الله المهدي وبين العامة من أهل القيروان، بسبب ما بدأوا يدعون إليه وينشرونه، حتى اضطر عبيد الله إلى كفهم عن دعوة العامة إلى التشيع، تسكينا للوضع. ([13])
وبعد ذلك بدأ يحاول استقطاب العلماء واستمالتهم، فكان يدعوهم إلى مجالسته ومناظرته.
وقد اشتهرت المناظرات بين أبي العباس أخي عبيد الله وبين الشيخ سعيد بن محمد بن الحديد، وكان يغلبه بالحق، ويظهر عليه، حتى اشتهر بذلك، وحتى قال له ابنه: (اتق الله في نفسك ولا تبالغ في مناظرة الرجل، فقال له حسبي من له غضبت وعن دينه ذببت) ([14])
ثم بدأت الأمور تتوتر أكثر فأكثر، وبدأت الدعوة إلى التشيع تفرض نفسها بالقوة، وهنا وقف علماء القيروان وقفتهم الشهيرة التي سجلها لهم التاريخ، وذبوا عن دين الله واسترخصوا أرواحهم في سبيل ذلك:
ولعل هذا النص يوضح لنا بعض ملامح هذه المرحلة:
(كان عبد الله المعروف بالمحتال، صاحب القيروان، شدّ في طلب أهل العم، ليشرّقهم ([15])، فطلب الشيخ أبا سعيد ابن أخي هشام. وأبا محمد التبّان وأبا القاسم بن شبلون، وأبا محمد ابن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي، رضي الله عنهم. فاجتمعوا في مسجد ابن اللجام واتفقوا على الفرار. فقال لهم ابن التبان: أنا أمضي إليه، وأكفيكم مؤونة الاجتماع، ويكون كل واحد منكم في داره. ويقال إنهم أرادوا السير إلى عبد الله. فقال لهم: أنا أمضي إليه، أبيع روحي من الله دونكم، لأنكم إن أتي عليكم، وقع على الإسلام وهن. ويقال إنه قال لعبد الله: لما دخل عليه جئتك عن قوم إيمانهم مثل الجبال، أقلّهم يقيناً أنا. فحدث بعض من حضر، قال: كنت مع عبد الله، وقد احتفل مجلسه بأصحابه، وفيهم الداعيان: أبو طالب، وأبو عبد الله. لعنهم الله. وقد وجه إلى ابن التبان، فإذا به داخل، وعيناه توقدان، كأنهما عينا شجاع. فدخل وسلم. فقال: أبطأت عنا يا أبا محمد. فقال: في شغلك، كتاب ألفته في فضائل أهل البيت الساعة. أتاني به المجلد، ودفعه إليّ. فقال: يا أبا محمد ناظر هؤلاء الدعاة. قال: في ماذا؟ قال في فضائل أهل البيت. فقال لهما: ما تحفظان في ذلك. فقال له أبو طالب: أنا أحفظ حديثان - ولحن - ثم سأل الآخر، فقال له: وأنا أحفظ حديثان. فقال فيما ذان الحديثان اللذان تحفظ أنت؟ فقال له: هما يحفظان حديثان - ونطق بلحنهما - وأنا أحفظ في ذلك تسعين حديثاً، فأولى بهما الرجوع إلي. ثم قال عبد الله: يا أبا محمد، من أفضل أبو بكر أو عليّ؟ قال: ليس هذا موضعه. فقال: لابد، فقال: أبو بكر أفضل من علي. فقال عبد الله: أيكون أبو بكر أفضل من خمسة، جبريل عليه السلام سادسهم؟ فقال أبو محمد: أيكون عليّ أفضل من اثنين، الله ثالثهما؟ إني أقول لك ما بين الوجهين، وأنت تأتيني بأخبار الآحاد. فضاق عبد الله، وقال: فمن أفضل عائشة أو فاطمة. فقال له: هذا آخر، سؤالك الأول؟ قال: لابد. قال: عائشة رضي الله عنها، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة. قال: من أين؟ فقال له قال الله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) الأحزاب: 32 فيقال، إن بعض الدعاة قال له في هذه المسألة. أيما أفضل، امرأة أبوها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة الكبرى، وزوجها علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولداها الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة. أو امرأة، أمها أم رومان وأبوها عبد الله ابن أبي قحافة؟ فقال له أبو محمد: أيهما أفضل عندك، امرأة إذا طلقها زوجها، أو مات عنها تزوجها عشرون زوجاً؟ أو امرأة إذا مات عنها زوجها أو طلقها لم تحل لأحد؟ فيحكى، أن أبا عبد الله قال له: يا أبا محمد أنت شيخ المؤمنين، ومن يوثق بك، أدخل العهد وخذ البيعة. فعطف عليه أبو محمد وقال له: شيخ له ستون سنة، يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنين وسبعين فرقة، يقال له هذا؟ لو نُشِرتُ بين اثنين، ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه. فخرجوا ومعهم سيوف مصلتة. فمر بجماعة من الناس ممن أحضر، لأخذ الدعوة. فوقف عليهم فقال: تثبتوا ليس بينكم وبين الله عزّ وجلّ إلا الإسلام). ([16])
ويصف لنا القاضي عياض هذه الفترة الحرجة، قال: (كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد، في حالة شديدة من الاهتضام والتستر. كأنهم ذمة. تجري عليهم في كثرة الأيام محن شديدة. ولما أظهر بنو عبيد أمرهم، ونصبوا حسيناً الأعمى السبّاب لعنه الله تعالى، في الأسواق، للسب بأسجاعٍ لُقِّنها. يوصل منها إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم، في ألفاظ حفظها. كقوله لعنه الله: العنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوى. وغير ذلك. وعلقت رؤوس الأكباش والحمر، على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة، مكتوب فيها أسماء الصحابة. اشتد الأمر على أهل السنة. فمن تكلم أو تحرك قتل، ومثّل به) ([17])
[1] دولة الأدارسة في المغرب، للدكتور سعدون عباس نصر الله دار النهضة العربية ص70 - 76 بتصرف.
[2] مرحلة التشيع في المغرب العربي – محمد الحاجري- ص7
[3] نفس الموضع من المصدر السابق
[4] دولة الأدارسة في المغرب، العصر الذهبي، سعدون عباس نصر الله ص126 طبعة دار النهضة العربية.
[5] دعوة الحق العدد الثاني، السنة الثانية عشرة ديسنبر يناير 1969 عنوان المقال: إدريس الأكبر وإدريس الأصغر لعبد الله كنون ص ص42
[6] نفس المصدر
[7] ترتيب المدارك ج2 ص46
[8] اتعاظ الحنفاء 1 - 17
[9] اتعاظ الحنفا ج1 ص14
[10] انظر قصة دخولهم إلى المغرب في تاريخ ابن خلدون ج4 ص31 فما بعدها.
[11] انظر نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي ج1ص269
[12] نفس المصدر ج1 ص267
[13] مرحلة التشيع في المغرب العربي ص33
[14] طبقات علماء إفريقية ص199 طبعة الجزائر سنة 1322هـ
[15] نسبة إلى المشرق، وكان هذا اللقب يستخدم في ذلك الوقت لمن تشيع.
[16] ترتيب المدارك ج1ص453
[17] ترتيب المدارك 1ص364
¥