بل إن العكس هو الصحيح، فقد كان هناك تآمر على الشريعة الإسلامية، حتى أن كل المذاهب التي ظهرت في الملة أصولها من الكافرين، وإن رحت تستقصي الأفكار الهدامة التي دخلت الإسلام تجد أن أصلها من الكافرين .. يهود وغيرِ يهود، أثَّر اليهود ـ أو الكافرون عموماً ـ في نفرٍ من الكارهين لبعض ما أنزل الله أو بعض المغرضين أو مرضى النفوس الذين يبحثون عن ذواتهم من خلال الدعوة إلى الله (المنافقين).مثلا بدعة القدرية (أن الإنسان حر في اختياره) أوَّلُ من تكلم بها سَوْسن في العراق وهو نصراني عراقي أسلم ثم ارتد ثانية إلى الكفر، هذا الكافر المرتد تكلم بالقدر وأخذ عنه معبد الجهني (13)
. ثم جاء بعده غيلان القدري وكان بليغا فتكلم وأكثر، وناظر الضعفاء؛ وعاند العلماء.والشيعة بدأها بن سبأ اليهودي، بعد أن دخل في الإسلام وتقمص دور (المؤمنين) وتعامل مع مرضى النفوس (المنافقين) والغافلين المتحمسين، فكان ما كان.وبدعة الجبر (أن الإنسان مجبور) و الإرجاء في الإيمان (14)، والتعطيل في الأسماء والصفات ظهرت على يد الجهمُ بن صفوان وشيخه الجعد بن درهم، كانت أسانيدهم (ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة) (15)، حتى الفلسفة والعلوم الأخرى التي دخلت للإسلام وأظهرت في المذاهب الفكرية المنحرفة، كان للآخر علاقة بها، متعاوناً مع الذين في قلوبهم مرض. وهذا يظهر أثر مخالطة المبتدعة. والضالين.
فهناك نفوس تشرب البدعة وتأبى إلا ذلك. هذه نفوسُ المنافقين، ويتصل بها (الآخر) بقصد ـ وهو الغالب ـ أو بدون قصد، ويقوم بتفعيلها لتحدث الفتنة في صفوف المؤمنين.
ولهذا السبب تأثر الفكر الإسلامي بالأفكار الأخرى مع أننا كنَّا الغالبين، والغالبُ في الغالبِ لا يتأثر بالمغلوب، وإنما أتينا من قبل المنافقين ـ مرضى القلوب ـ؛ اتصل (الآخر) بمرضى القلوب أو اتصلت بهم القلوب المريضة فشربت من حياضهم ثم عادت إلينا، تروي المهزومين والمتطفلين بما ارتوت به.
وعلى عجالة أضرب لك بعض الأمثال ولا تعجل فهذا من صلب ما تكلم فيه العقاد .. إنه الفكر خبيث في جملته يتسلل من كل طريق:
ابن المقفع، كان (أحد البلغاء والفصحاء، ورأس الكتاب) وكان الخلفاء يبحثون عن المتميزين، ويغضون الطرف قليلاً وكثيراً عن خلفياتهم العقدية، فأسلم هذا الفصيح البليغ الماهر كبيراً، وقام بترجمة كليلة ودمنة، وكان هذا الرجل أصل كل زندقة في هذا العصر، يقول الخليفة محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور (ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع) (16)
وكان خلفاء الدولة العباسية ـ المنصور والذين جاءوا من بعده ـ يتخذون أطباء من النصارى، وكان الطب يومها مقترناً بالفلسفة وبعلم الكواكب (الفلك)، وكان هؤلاء الأطباء يترجمون بأمر الخلفاء الكتب إلى العربية للإفادة منها ـ بزعمهم ـ، ولم يكن هؤلاء الأطباء فقط أطباء بل وفلاسفة ولهم مجالس عامرة، ولهم حظوة عند الخلفاء (17) ومن هنا تسللت الانحرافات الفكرية إلى المسلمين، عن طريق الآخر الذي كان يترجم كتب قومه، وعن طريق من أعجب بقوله من المنهزمين، ومن المنصرفين عن دينهم، المنافقين.والآخر يبحث عن هذه النوعية دائماً .. يبحث عن من لهم ولاءات متعددة داخل المجتمعات الإسلامية، سواءً أكان هذه الولاءات عرقية (كردي) (بخاري) (تركي) .. أو ولا ءات (تربوية) (فكرية) .. مبتعث تأثر بالغرب مثلاً.
وإن تدبرت في الذين قاموا بالتحولات الفكرية في مصر وجدت جلهم ممن لهم ولاءات أخرى يناهضون بها الأنظمة أو المجتمع أو الدين.
كان بعضهم من أصولٍ أجنبية مثل (قاسم أمين) على فصاحته وحسن بيانه، (المازني) (جمال الدين الإيراني) (عباس العقاد وكان كردي الأصل يفاخر بأصله الكردي).
وكان بعضهم لهم ولاءات دينية دخلوا بدعوى (الانفتاح) و (الحرية) و (الأدب)، كـ (مي زيادة) و (سلامة موسى) و (مرقص فهمي) وهو صاحب كتاب قاسم أمين على الحقيقة هو والدوق الفرنسي. ومثل (جوزيف قذى) و (شيخو).
¥