فقد كان لثناء الإمام ابن تيمية على بعض أئمة التصوف: أثرا في المعظمين لعلمه وجهاده، حملهم على التشكيك في صحة نسبة الأقوال المنحرفة إلى أولئك الأئمة!!. وترجيح عدالتهم وصحة طريقتهم، وبنوا على ذلك صحة تقسيم التصوف إلى:
- معتدلٍ، وهم رجال القشيري والغزالي ونحوهم، على حد قول أبي الوفا التفتازاني [5].
- وغالٍ، يمثله الذين ثبت عنهم القول بالحلول.
وقد استفاد المتصوفة من موقف الإمام، لتخفيف حدة النقد، وبعضهم جعل الإمام من المتصوفة لأجل موقفه هذا، وبالغ آخرون فزعموا أنه لا خلاف بين التصوف والسلفية!! .. فهنا مسألتان جديرتان بالبحث:
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
- المسألة الثانية: تحليل موقف الإمام ابن تيمية من التصوف.
* * *
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
الأقوال المنسوبة إلى أحد أئمة التصوف: إما أن تكون واردة في كتاب للإمام نفسه، أو نقله عنه أحد المصنفين. فإن كانت في كتاب له، فإما أن يكون الكتاب صحيح النسبة إليه فالقول ثابت، وإلا فلا.
وإن كان نقله عنه أحد المصنفين في التصوف، فإما أن يكون تلقاه منه مباشرة فالقول ثابت حينئذ، إذا كان المصنف ثقة، أو بوساطة، فإن كانوا ثقات فالقول ثابت، وإلا فلا، وكذا إن رواه بغير سند.
فالحاصل أن نسبة القول إلى أحد الأئمة ثابتة في الأحوال التالية:
1 - إذا كان في كتاب له، قاله على سبيل التقرير.
2 - إذا كان الناقل ثقة، أو النقلة ثقات.
- فيما يتعلق بالحالة الأولى: فقد صنف الأئمة القدماء في التصوف، كأبي سعيد الخراز، والجنيد، والحلاج، والطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسلمي، وأبو طالب المكي، والحكيم الترمذي، والهروي كتبا ورسائل، لم يشكك أحد في نسبتها إليهم، لا من المتصوفة ولا غيرهم، فيها كل الأقوال والأفكار الغالية التي تمثل أصول التصوف، فهي إذن وثيقة صوفية تثبت أن مصنفي تلك الكتب يعتقدون بكل تلك الأقوال والأفكار المنحرفة، فإنهم ما علقوها على سبيل الحكاية، كلا، بل على سبيل التقرير والتأصيل.
ومعلوم أن مقام التقرير والتأصيل، ليس كمقام الإخبار والنقل المحض، فالذي ينقل الأقوال في حالة التأصيل والتقرير لفكر ما، وهو منتسب إلى ذلك الفكر، لا شك هو مؤمن معتقد بتلك الأقوال، والذي ينشئ الفكرة وينظّر لها كذلك هو مؤمن بها، وفي هذا الحال ما على من نسب إليه الإيمان بتلك الأقوال والأفكار من حرج.
- فيما يتعلق بالحالة الثانية: فإن الملاحظ أن كثيرا من أقوال الصوفية ليست بأسانيد أصلا، وما كان منها بأسانيد قد يكون البحث في صحتها مفيدا، من حيث تبرئة بعض الأئمة مما نسب إليهم من القول الغالي، في حال بطلان السند، غير أنه لا يفيد في تبرئة الفكر الصوفي من الانحراف، بعدما امتلأت مصنفات التصوف بهذه الأقوال على جهة التقرير والتأصيل، وذلك كاف في الحكم على التصوف، ووصفه بالوصف الذي يستحقه بحسب ما في تلك الأقوال من معاني.
غير أن مما قد يحتج به من لا يبرئ الأئمة أنفسهم مما نسب إليهم من الأقوال الغالية: ما جاء في تراجمهم من تعرضهم لإنكار العلماء واتهامهم بالزندقة، إذ أدى إلى قتل بعضهم، وسجن آخرين، وهروبهم، وتخفيهم، منهم الجنيد كان يتستر بمذهب ثور، ويدرس أحكام الطريقة خفية، بعد غلق الأبواب بمفتاح يضعه تحت وركه، وكذا الحكيم الترمذي الذي ذكر ما تعرض له من نكير وتهمة في كتابه (ختم الأولياء)، ولا تكاد تجد إماما صوفيا إلا وتعرض لمثل هذه المشكلات .. أفلا ينم ذلك عن صدق ما نسب إليهم؟. [6]
وفي كل حال نقول: إن الحكم والوصف إنما هو في حق الفكرة لا الأشخاص، فالفكر الصوفي ليس من الإسلام في شيء، وما عليه الفكر الصوفي من حق:
- إما أن يكون حقا متفقا عليه عند جميع العقلاء، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، كالصدق وعدم الكذب، وتوقير الكبير والضعيف، وعدم الغش، أو السرقة، أو الخيانة، ونحو ذلك ..
- وإما أن يكون أصله مما جاء به الإسلام، كالاجتهاد في العبادات .. ثم إن الصوفية زادوا فيها.
¥