أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الشامي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: حدثنا يوسف بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عمرو العقيلي قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الخلال. قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت ليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك؟ قال: " جئت إلى الجزيرة، فلما نضب الماء دفنتها حتى جاء الماء عليها، فذهبت ".
قلت: ما حملك على ذلك؟
قال: " أردت أن يكون الهم هماً واحداً ".
قال العقيلي: و حدثني آدم، قال: سمعت البخاري قال: قال صدقة: "دفن يوسف بن أسباط كتبه، و كان يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينبغي ".
قال المؤلف: قلت: الظاهر أن هذه كتب علم ينفع، و لكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصد به الخير، و هو شر.
فلو كانت كتبه من جنس كتب الثوري، فإن فيها عن ضعفاء و لم يصح له التمييز، قرب الحال. إنما تعليله يجمع الهم هو الدليل على أنها ليست كذلك، فانظر إلى قلة العلم، ماذا تؤثر مع أهل الخير.
و لقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه، و نزوره، أنه كان على شاطئ دجلة، فبال ثم تيمم، فقيل له: الماء قريب منك، فقال: خفت ألا أبلغه!!.
و هذا و إن كان يدل على قصر الأمل، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به، من جهة أن التيمم، إنما يصح عند عدم الماء.
فإذا كان الماء موجوداً كان تحريك اليدين بالتيمم عبثاً. و ليس من ضرورة وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث، بل لو كان على أذرع كثيرة، كان موجوداً فلا فعل للتيمم و لا أثر حينئذ.
و من تأمل هذه الأشياء، علم أن فقيهاً واحداً ـ و إن قل أتباعه و خَفَتَ إذا مات أشياعه ـ أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبركاً، و يشيع جنائزهم ما لا يحصى.
و هل الناس إلا صاحب أثر نتبعه، أو فقيه يفهم مراد الشرع و يفتي به؟ نعوذ بالله من الجهل، و تعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل!
فإن من ورد المشرب الأول، رأى سائر المشارب كدرة.
و المحنة العظمى مدائح العوام، فكم غرت!!
كما قال علي: " ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً ".
و لقد رأينا و سمعنا من العوام، أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام الليل، و لا يفطر النهار، و لا يعرف زوجة، و لا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً، قد نحل جسمه، و دق عظمه حتى أنه يصلي قاعداً، فهو خير من العلماء الذين يأكلون و يتمتعون.
ذلك مبلغهم من العلم، و لو فقهوا علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله، و يخبر بشريعته، كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً و أفضل من عباده ذلك العابد باقي عمره!.
و قد قال ابن عباس: " فقيه واحد، أشد على إبليس من ألف عابد ".
و من سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه.
و إنما أمدح العاملين بالعلم، و هم أعلم بمصالح أنفسهم. فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش، كأحمد بن حنبل. و كان فيهم من يستعمل رقيق العيش، كسفيان الثوري مع ورعه، و مالك مع تدينه، و الشافعي مع قوة فقهه.
و لا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه.
فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه. و قد قالت رابعة: " إن كان صلاح قلبك في الفالوذج، فكله ".
و لا تكون أيها السامع ممن يرى صور الزهد. فرب متنعم لا يريد التنعم و إنما يقصد المصلحة.
و ليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصاً من قد لاقى الكد و أجهده الفكر، و أمضه الفقر، فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجباً عليه من الرفق.
فهذه جملة لو شرحتها بذكر الأخبار و المنقولات لطالت، غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري، و الله ولي النفع برحمته.
[صيد الخاطر صـ66].
ولا يفهم من هذا التقعيد عدم الحث على الزهد والتقلل من فضولات المباحات .. والصبر على القليل ..
وإنما جاء ما ذكر في معرض الرد على من غلى وابتدع. والله أعلم.